فى موروثنا الشعبى حكايات وطرائف مشحونة بالدلالات والمعانى المعبرة عن حالنا، إحداها تقول، إن أسدا تقابل مع فأر فى مركب، كل منهما توجس من الآخر، خاف الفأر من غدر الأسد فيلتهمه، وخاف الأسد من مكر الفأر فيثقب بأسنانه خشب المركب فيغرق، وهو لا يجيد فن السباحة، سيطرت عليهما الحيرة، ولم يجدا أمامهما سوى أن يفشى كل منهما للآخر عن سر خوفه، فعقدا اتفاقا بينهما يضمن سلامتهما سويا، تعهد الأسد بعدم الاقتراب من الفأر، وتعهد الفأر بأن ينفذ أوامر الأسد حتى يعبرا النهر، وما أن اقترب المركب من الشاطئ، أيقن الأسد أنه أصبح فى مأمن وتبددت مخاوفه من الغرق فعادت إليه ثقته بنفسه، كما عادت إليه طباعه راح يستفز الفأر قال له، لا تلعب فى التراب، فغباره الكثيف غطى وجهى، رد الفأر قائلا بتلقائية، أين التراب؟ نحن فوق الماء، كشر الأسد عن أنيابه وقال للفأر «كمان لمض» أى لسانك طويل، وكمان بتكدبنى، ووجد فرصته فى نقض الاتفاق والتهمه.
مفاد هذه القصة أن الأقوياء لا يلتزمون بوعودهم، ينقلبون على الفئران المترهلة بعد أن تنتهى أدوارهم، يعبرون بهم إلى شواطئ مصالحهم، ثم يتخلصون منهم، وهذا هو المصير المحتوم لبعض الحكام، الضعفاء مثل أمير دويلة قطر وغيره من دراويش البيت الأبيض، وما أكثر هؤلاء الدراويش، ممن يطلق عليهم النخبة، أما إذا توقفنا ولو بصورة عابرة، أمام «تميم»، فحدث ولا حرج، هو نموذج صارخ يجسد واقعيا، حكاية الفأر الذى وثق فى وعد الأسد، ضمنت له واشنطن الحماية، بقواعدها العسكرية على أراضى دولته، وراحت تستنزف ثروات بلاده وخزائنه فى دعم الإرهابيين بالسلاح والمال، وتمويل عمليات إثارة الفتنة والقلاقل فى البلدان العربية المستقرة، هو لم يدرك أن الأسد التهم الفأر الكبير «أبوه»، بعد أن نفذ أجندة الغرب بدعم الإخوان وتمويل أنشطتهم الإرهابية، وبعد أن انتهى من المهام الموكلة إليه، تخلصوا منه للمجئ بابنه، حاكم الدويلة الصغيرة لم يتعلم شيئا من دروس التاريخ، راح يواصل خضوعه أمام الحكومات الغربية «بريطانيا وأمريكا»، لنيل الرضا على حساب شعبه المقهور ووطنه المسحوق، فوافق على إقامة قواعد عسكرية بريطانية على الأراضى القطرية لتهديد المنطقة بأكملها تحت مزاعم واهية «حماية أمن الخليج» من إيران والتنظيمات الإرهابية، أما الرغبة الحقيقية، فهى الاجهاز على ما تبقى من مقومات الدولة فى سوريا والعراق.
الغريب أنه يفعل كل تلك الممارسات التى تهدف لتمزيق المنطقة العربية، والتهام بلاده، وفق المخططات الأمريكية بدون إدراك، أن مصيره سيكون نفس مصير «حمد» إن لم يكن أشد قسوة، بعد أن ينتهى الدور الموكل إليه مع آخرين من الحكام العرب، تسببوا فى كل الحروب الدائرة فى المنطقة بأكملها، وراحوا يرددون بحماقة ما يطلقه الغرب من أكاذيب، لإشعال المزيد من النيران وفتح الباب أمام تدخل الأسود الأخرى، فى إطار صراع النفوذ والمصالح بين القوى العظمى فى العالم، فعلى مدار الساعة، تداهمنا الأخبار المؤلمة عن تدمير القرى والمدن وسقوط الضحايا فى سوريا والعراق واليمن وليبيا، ولم نسمع ولو على سبيل الخطأ، بيانا واحدا صدر من أى حكومة أوروبية أو منظمة دولية، يندد أو يشجب بشاعة ما يجرى فى تلك البلدان، أو يتخذ موقفا إيجابيا لمنع نزيف الدماء، فقط تتعالى أصوات الإدانة للأنظمة الحاكمة، هم يطلقون على الإرهابيين، مصطلح «المعارضة المسلحة»، لإضفاء الشرعية على الأعمال المجرمة فى كل الدساتير والقوانين، أما إذا حدثت جريمة إرهابية فى دولة أوروبية، ينتفض العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، تنفجر ماسورة إطلاق التصريحات الرسمية من الحكومات، وتصدر البيانات عن المنظمات المعنية بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، تتوعد الحكومات بالقصاص من الإرهابيين وتتعهد بدحرهم فى معاقلهم، وفى بعض الأحيان تصل الأمور إلى عقد جلسات طارئة فى قاعات المنظمات الدولية، لتوقيع العقوبات على الدول التى ينتمى إليها مرتكبو الأعمال الإرهابية.
على المستوى الشخصى، لا أرى عجبا من المعايير المزدوجة فى الحكم على الوقائع المتشابهة، سواء حدثت فى بلادنا أو فى أوروبا وأمريكا، فهذه طبيعة تعامل الأسود مع الذين ارتضوا أن يكونوا فئران، أو بمعنى أكثر دقة، العرب هانوا على أنفسهم، فهانوا على غيرهم، لكن أحدا منا لم يتوقف أمام الحقيقة المرة، وهى أن الشعوب العربية، تدفع وحدها ثمن مغامرات الفئران، ووحدها تجنى ثمار خطاياهم، وإفقار شعوبهم، بخوض الحروب بالوكالة، والنتيجة أننا نغوص فى أعماق واقع مهين صنعه الضعفاء بأيديهم، واقع صارت فيه المنطقة على اتساع خريطتها الجغرافية، مسرحا للحروب الأهلية الدائرة تحت شعار إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، تحت هذه اللافتة الخادعة، يتم تدمير جيوش الدول واستنزاف قدراتها فى المواجهات الدامية، بهدف إسقاطها.
من الآخر أصبحت بلادنا قبلة للكلاب المسعورة تنهش فى جسدها وتعوق تطلعاتها بفعل تواطؤ بعض الحكام ممن يشاركون فى صناعة الخراب والدمار، فهؤلاء الحكام صاروا، طوعا أى بإرادتهم، أدوات رخيصة فى أيدى الديناصورات العالمية، تحركهم كقطع الشطرنج تتلاعب بهم، تتحكم فى سياساتهم، تعبث بمصائر بلدانهم وشعوبهم دون حسابات لعواقب ما يفعلون، رغم درايتهم الكاملة، بأنهم ينفذون مخططات استراتيجية معلنة، ومعلومة للكافة، عكفت على إعدادها حكومات وأجهزة استخبارات ومراكز دراسات، بهدف تمزيق المنطقة لدويلات صغيرة هشة قائمة على أساس عرقى ومذهبى وطائفى، لتمكين الشركات العالمية من السيطرة أو السطو على الثروات النفطية والغاز فى البلدان الملتهبة التى أصبحت مسرحا للحروب والنزاعات بفعل فاعل.
علينا أن نعيد التذكير مرات ومرات، ولن أمل من التكرار، بأن أمريكا هى من صنعت تنظيم القاعدة بتمويل عربى خالص وهذا معلوم للكافة، ولا يستطيع أحد مهما كان مجاف للواقع، إنكار تلك الحقيقة الدامغة، هم شجعوا المارقين على السفر إلى أفغانستان بتدابير استخباراتية، تحت لافتة الجهاد ضد الشيوعية الكافرة الجاهلة فى ظل واشنطن تمدهم بالسلاح والمعلومات وتقوم بتدريبهم فى معسكرات على الأراضى التركية، لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وجه التنظيم أقوى ضرباته لبرجى التجارة العالمى، ثم خرجت ماكينة صناعة المصطلحات، تنتج لنا مفردات جديدة، صار الجهاد إرهابا، وأصبح المجاهدون سابقا لأغراض البيت الأبيض، إرهابيين يهددون العالم.
أمريكا أو بريطانيا، لم تحشد أى منهما جيوشها للعبث بالأقطار العربية، فهناك من يقوم بالدور، التنظيمات الإرهابية، وهناك من يقوم بالتمويل، وهناك من يقوم بالتدريب، فالتحرك الغربى مدعوما من تركيا وقطر، وهذا الدعم لم يتوقف عند حدود الخراب الذى جرى فى سوريا وليبيا والعراق، كما أنه لم يتوقف أيضا، عند حدود دعم الإخوان، ومساندة تنظيمهم المشبوه، لكنه امتد إلى استخدام كل الأساليب البغيضة ضد الدولة المصرية وتشويه السلطة الحاكمة بهدف حصارها دوليا، أما أبرز ما يدور فى الخفاء فهو محاولات توسيع الفجوة بين مصر والسعودية، عبر استثمار مساحة التباين فى وجهات النظر بينهما حول الأوضاع فى سوريا واليمن.
وبعيدا عن النظرة الضيقة، أو الانحياز لوجهة نظر على حساب الأخرى، لا بد من توضيح بعض الأمور، الموقف السعودى مرتبط بالمصالح الاستراتيجية للمملكة، فى إطار مخاوفها من المشروع الفارسى الشيعى الرامى لحصارها، وفرض واقع جديد فى الإقليم عبر تشكيل أنظمة حكم مذهبية موالية لإيران فى سوريا والعراق، فضلا عن إشعال الحرب فى اليمن وهى دولة حدودية مع السعودية.
أما الموقف المصرى فتحكمه أبعاد استراتيجية مرتبطة بالأمن القومى، يدور مجملها فى تكاتف كل الجهود للحفاظ على وحدة الدولة السورية، والإبقاء على تماسك ووحدة الجيش ضمانا لعدم تفكيكه، باعتباره يمثل أحد أهم الأركان الأساسية للأمن القومى العربى، لأن الدولة السورية، لمن لا يعى أو يدرك الحقائق، هى طرف أصيل ورئيسى فى معادلة الصراع العربى الصهيونى ليس فقط لأنها إحدى دول الطوق والمواجهة، إنما لأنها أيضا امتداد طبيعى للأمن القومى المصرى بكل أبعاده وتفاصيله.