ما علاقة الشيخ نزيه متولى، المسلم الأزهرى القاهرى، والأستاذ رزيقى ناشد إسطفانوس، المدرس المسيحى الصعيدى؟.. ما الذى جمعهما؟.. ولماذ اخترت أن يكون اسمهما عنوانا لمقالى؟.. رغم أن كلا منهما لا يعرف الآخر، بل عاش فى زمان ومكان، غير الذى عاش فيه الآخر، والآخر هنا لا يعنى بالنسبة لى، الغريب البعيد، أو الضد المتنافر.. إنما الجزء المكمل لبنيان الجسد الواحد، اليد واليد الأخرى، العين والعين الأخرى، هما مصريان، شربا من ماء النيل، فارتويا من عذوبته، تلونت بشرتهما بلون الطمى، طين الأرض البتول، فنبتت بداخل كل منهما، بذور التسامح الإنسانى الفطرى، ونثرا حولهما قيم المودة والمحبة بمكونها الثقافى، ومردودها الوطنى.
قبل أيام، وبينما كان المصريون على اتساع الوطن يغوصون فى أعماق أحزانهم الدفينة فى النفوس على أرواح الشهداء، ممن صبغت دماؤهم البريئة جدران أحد بيوت الله «الكنيسة البطرسية».. خرج من بين المصريين صوت هز بدلالاته العميقة، السكون، رجل لم يتجاوز عمره الـ٣٩ عاما، ذهب بتلقائيته كعادته مع ذويه، لتأدية واجب العزاء فى استشهاد شقيق صديقه بمنطقة شبرا.
الرجل، اسمه الشيخ نزيه متولى، إمام وخطيب مسجد فى حى شبرا، حمله الحاضرون فى العزاء من ذوى الشهيد، ومنهم شقيقه على أكتافهم، وأجلسوه فى السرادق بجوار وعاظ الكنيسة، الذين استحسنوا صنيعه، فقرأ من القرآن «سورة مريم»، فاهتزت مشاعر المعزون، وامتزج الحزن بالفرحة، كانت الرسالة، على الأقل بالنسبة لى، تحمل مضمونا مغايرا للطنطنة السطحية، فهى تتجاوز الحدود الضيقة للواقعة من ناحية الزمان والمكان، باعتبارها مشهدا فى حكاية وطن، ليس مهما فى هذه الحالة أن نسأل، عن عدد الذين تطايرت شظايا الإرهاب فى أجسادهم، أو نحاول معرفة أسمائهم، مارلين أو فاطمة، تيريزا أو عائشة، محمود أو بطرس، فكل الأسماء سواء، وكل الدماء سواء، لا فرق بين هذا وذاك، سواء سمعت فى العزاء القرآن أو تراتيل الوعاظ، الرسالة أيضا، ضربت فى مقتل تدابير الحكومات المتعاقبة فى الحرب ضد الإرهاب، الدولة حصرت معركتها، وحشدت جهودها، للقضاء على الجماعات الإرهابية بتنوع فصائلها، وتعدد أعضائها، وإن كان هذا مطلوبا فى المواجهات الطارئة، إلا أنها لم تتخذ خطوات جادة فى الحرب على الإرهاب، باعتباره فكرا متطرفا، عشش فى أحراش العقول المظلمة وخرائب النفوس العفنة، الموبوءة.
ما فعله الشيخ الشاب بتلقائية وعفوية جزء لا يتجزأ من مكنون الشخصية المصرية وقيمها المتوارثة عبر التاريخ، هو أعلن الحرب على الفكر الخبيث بالكلمة الطيبة والمودة وإعلاء قيمة الأديان، فعندما تعانق المساجد الكنائس، نتذوق حلاوة القرآن ونطرب لطراوته، بنفس الانسجام مع أجراس الكنائس وتراتيل المحبة.
تلك البساطة والتلقائية، التى رسمت ببراعة ومهارة، ملامح الصورة الحقيقية لوجه مصر، حفزتنى على استدعاء مشاهد لم تغب عن ذاكرتى، بل ما زالت تلاحقنى منذ أيام الطفولة، وقت أن كنت أحبو خطواتى الأولى نحو الصبا ومقتبل الشباب، ففى تلك السنوات البعيدة، لم أكن أنا أو غالبية جيلى طرفا فى حسابات السياسة، أو جزءا من عصابات الشيطان التى حلت على مجتمعاتنا، منذ أن أخرج السادات قوى الظلام من القمقم، أطلقها فى البرية، فتوحشت، فقتلته، وما زالت تقتل أحلام وطننا، مرتدية ثياب الدين، تذكرت الأستاذ رزيقى ناشد إسطفانوس مدرس التاريخ فى مدرسة الناصرية الابتدائية بالوقف، هذا الاسم يعنى بالنسبة لى ولجيل من أقرانى فى بلدتى عنوانا لزمن جميل، زمن لم تتسلل فيه إلى قاموسنا المفردات البغيضة، مثل المسلمين والمسيحيين، التطرف والإرهاب، والتفجيرات، والعمالة لصالح أجهزة استخبارات عالمية، زمن لم يبحث فيه البعض منا عن اقتطاع جزء من آية قرآنية توافق هواه، للتدليل بها على تكفير المسيحيين، وإطلاق الفتاوى لإهدار دماء المسلمين.. زمن لم نسمع فيه عن تسكع المتطفلين على أبواب دكاكين التمويل للتعلق بجوارب رجال الكونجرس والبيت الأبيض للعمل فى بلاط المخابرات الأمريكية.
كان الأستاذ رزيقى، ولا أعرف إن كان حيا أم ميتا، بعد أن التحق بالدراسات التكميلية فى اللغة الفرنسية، نقل من بلدتنا وبلدته فى نفس الوقت محافظة قنا، إلى مدرسة عباس محمود العقاد الثانوية بأسوان، يزور بيوت القرية، وقت أن كانت قرية «بحق وحقيقى»، للاطمئنان على تلاميذه، والتنبيه على أولياء الأمور للاهتمام بأبنائهم، بالمناسبة، لم يكن يعطى دروسا خصوصية، وكان يطلب من أسر التلاميذ المتعثرين، إرسالهم مع أقرانهم، بدون مقابل، فى تلك الأثناء كان ملازما وصديقا لعدد من المدرسين على اختلاف انتماءاتهم القبلية، مثل الأستاذ صلاح محمد يوسف رحمه الله، والأستاذ عبدالقوى شورة، أطال الله فى عمره، والأستاذ محمد أحمد عبدالرحيم القرو، وغيرهم ممن أسهموا فى بناء جيل، فى زمن كان فيه المعلم تاجا على رؤوس الجميع، كان الأستاذ رزيقى يحدثنا فى الفصل عن أهمية النظافة ولماذا صارت من الإيمان، ولماذا اهتمت بها الرسالات السماوية، لم يكن متعصبا أو متطرفا، كان يشيد بتلاميذه، عندما يراهم يرتادون المسجد، يحثهم على قراءة القرآن لإتقان اللغة، ويحفز الآخرين على أن يغاروا منهم، ويسلكوا مسلكهم، لم يكن لديه إحساس بالغربة فى بلده، له مثل غيره عائلة، وله فى كل بيت أوفياء يذكرونه بالخير ولا ينكرون صنيع فعله، فالوفاء فى تلك الأزمنة لم تكن فريضة غائبة، يذهب للعزاءات ويشارك فى الأفراح، لا فرق عنده بين مسلم أو مسيحى، والله لولا اسمه المعلوم للكافة، لظن كثيرون أنه مسلم الديانة، وقد ذهب كثيرون لتأكيد ذلك، بقدر من البساطة والتلقائية، ولا أقول السذاجة، فى الحكم على السلوكيات المحمودة، كما قالوا عن عم عطا الله «تومرجى الغلابة»، وعم قديس صانع السجاد الماهر الذى فاقت شهرته حدود بلدتنا، كما أننى أتذكر شيئا له أثناء حرب أكتوبر، بعد النصر، عدنا إلى المدارس، قام بتفعيل حصة الموسيقى، وتعليم التلاميذ العزف على الآلات، وذات يوم طلب من زميله الأستاذ عبدالقوى شورة، تنظيم عدة رحلات متتابعة، يشارك فيها جميع تلاميذ المدرسة، لزيارة معرض الغنائم فى مدينة قنا، وزيارة معابد الأقصر، واتفقا على ذلك وحققاه بالفعل، كان يقول دائما، اعرفوا تاريخ أجدادكم، وعظمة جيشكم الذى انتصر وهو صائم.
من الأمور التى لا تنساها سيدات القرية له، كان يدل الأسر التى يشكو أبناؤها من مرض أو اكتئاب لزيارة المشايخ لقراءة القرآن، لأن فيه صفاء للنفس، أو النصح بالذهاب إلى الكنيسة فى قرية القلمينا المجاورة لقريتنا، للتبرك بالقس إبراهيم مكارى، كانت نساء قريتنا يعرفنه باسم إبراهيم واد مكارى، أى ابن مكارى بتاع قرية السماينة المجاورة لنا، الجميع كان يعرفه قبل أن يدخل الجامعة ويصبح قسا، فنساء القرية والقرى المجاورة يؤدين واجب العزاء مثل الرجال، وأكاد أجزم بعدم قدرة أحد على أن يفرق بين المسلمة وأختها المسيحية، اللبس واحد، السحنة واحدة، غطاء الرأس واحد، ومن هنا نشأت العلاقات مع أسرة رزيقى وإبراهيم واد مكارى دون أن ندرى ونحن فى سنوات الصبا المبكرة تلك الكوارث التى صنعها السادات، ولمَ لا فالذين أخرجهم من مكانهم الطبيعى «السجون» إن لم تكن الصحراء، عبثوا بالنصوص القرآنية لتحقيق أغراض سياسية دنيئة، بخروجهم رحل الأستاذ رزيقى من قريتنا، بعد أن أشاعوا أنه يدعو للنصرانية، بهدف التحريض عليه، ومن عجب أن الكذبة ابتكرها وروجها أحد تلاميذه الذى انتمى للجماعة التى وصفت نفسها بالإسلامية، هؤلاء تاجروا بالدين فى إطار تفسيراتهم لبروتوكولات حسن البنا.. استغلوا الجهل والفقر لترويج ما يريدون نشره فى أوساط الغلابة، مثل هؤلاء لا يخجلون من القتل والتحريض على القتل بمقابل يتحصلون عليه، وهذا المقابل، دائما يكون بقدر العرق والمجهود وحجم الضحايا، لذا فهم مستمرون بلا خجل أو خشية عار يلاحقهم.. هؤلاء فقدوا الإحساس بالوطن، فلم تعد لديهم مسئولية أخلاقية تجاهه، لكن مآلهم إلى زوال، ما دام فى بلادنا الشيخ نزيه والأستاذ رزيقى ناشد، والقس إبراهيم مكارى، إن كان قد مات، وأغلب الظن أنه مات، فهناك إبراهيم مكارى آخر فى كل قرية.