تابعت مثل كثيرين، ضربات الرقابة الإدارية ضد شبكات الفساد، التى تنوع نشاطها من الرشاوى إلى الاتجار فى أعضاء البشر. الحملات المتلاحقة كشفت بوضوح أن الفساد نخر كالسوس فى بنيان الدولة، صار وباءً، أصابت عدواه غالبية الفئات، ممن كنا نحسبهم فى عداد الصفوة «كريمة المجتمع»، من أطباء ومهندسين وغيرهم، هؤلاء صاروا جزءًا من مكوناته، وطرفًا أصيلًا فى معادلة صناعته والتعايش معه.
الفساد لم يكن مقتصرا على تلك الفئات وحدها، لكنه امتد إلى عمق المجتمع، راح كل منا يمارسه حسب قدراته وإمكانياته ومهاراته، لم نصفه بما يليق به، إنما من فرط التدليس نطلق عليه مسميات براقة خادعة، نبرره لأنفسنا عندما يتسق مع أهوائنا، ويحقق لنا مصالحنا، ونكيد به أنظمة الحكم إذا تعارض مع رغباتنا، وإن كان تورط غالبيتنا بدون تدبير أو تخطيط، لكننا سلمنا به وصار واقعا، باعتباره نتاجا طبيعيا لسياق مجتمعى معين، فاتسعت مقابر الضمائر الخربة، وظهرت فئة من الفهلوية احترفوا التربح من الأزمات، لأن قواعد العقاب مهملة، وأن الجهات الرقابية كانت عاجزة، مغلولة الأيدى، لذا فإن المواطن البسيط وحده هو الذى يدفع فاتورة الخراب، لأن الفاسدين يمرحون لأنهم أمنوا العقاب، ومن أمن العقاب أساء الأدب.
قبل عدة أسابيع كتبت فى هذه المساحة مقالا بعنوان «الإصلاح الاقتصادى ضرورة، ومحاكمة الفاشلين فريضة»، كنت أرى أن تفعيل الرقابة لا بد أن يسبق الزيادة فى الأسعار، وأننا فى حاجة إلى قرارات أكثر جرأة، تصب فى عنوان شامل يعبر عن سياسة الدولة وتوجهاتها فى المرحلة القادمة، «إعلان الحرب على الفساد»، لم تكن هذه الرغبة مثالية، لكنها فريضة على الجميع التكاتف حولها، فالفساد أخطر من الإرهاب، وإن كان كلاهما يحتاج إلى إرادة للقضاء عليه، وليس الحد منه فقط، فالحكومة تعيش فى عزلة اختيارية عن الواقع، تصدر قراراتها بدون روية أو قراءة موضوعية للأوضاع الاجتماعية لغالبية المصريين، ممن يدفعون وحدهم فاتورة القرارات العشوائية، من ترد لأوضاعهم الاجتماعية، لا فرق فى موتهم البطىء، بين فقير، معدوم الدخل، أو متوسط الحال.. الكل يصرخ من ارتفاع الأسعار ويخشى من استمرار هذه الأوضاع، ناهيك بالسخط العام على الفساد فى العديد من القطاعات الحكومية وانتقاله بفعل غياب الرقابة إلى الأفراد، الكل يذبح الكل، علنا، بلا رحمة.
ما زلت أؤكد وأصر على التأكيد، بدون ملل، بأننا جميعا فاسدون، هذه حقيقة نعلمها ونقر بصحتها، لكننا لا نستطيع البوح بها، وإذا امتلكنا جرأة البوح، لا نستطيع إلقاء الضوء على الجوانب التى تخصنا أو تخص حجم مشاركتنا فى الظاهرة، بعد أصبحت مكونا أساسيا فى ثقافة قضاء المصالح، كلنا فاسدون، لأن بعضا منا يلجأ للوساطات، وإن لم يجد يدفع الرشاوى تحت لافتة الإكراميات لإنهاء إجراءات قانونية من موظفين احترفوا تعطيل مصالح الناس، داخل دواوين الحكومة، فى المستشفيات والمدارس والأحياء وأقسام الشرطة والمرور ومأموريات الشهر العقارى، وغيرها من الجهات المعنية بالتعامل مع المواطنين.
فاسدون لأننا نرى بعضا منا يحصل على استثناءات ومزايا، لقربهم من ذوى النفوذ، أو لديهم براعة فى تطبيق شعار «شيلنى وأشيلك»، هم فاسدون لأنهم يسطون على حقوق غيرهم، ونحن فاسدون لأننا نغض الطرف عن كل ما نراه دون أن نحرك ساكنا.
واقع الحال يؤكد أن الفساد فى مصر صار مهددا لاستقرار الدولة، ومعوقا لخطط التنمية، فإذا كان غالبية المواطنين جزءا من مكوناته، إلا أن أنظمة الحكم المتعاقبة هى من وضعت قواعده، راحت ترعاه وتضمن له غطاءً من الحماية، منحته النفوذ، فصار غولا متوحشا، التهم بين فكيه ثروات الشعب، تربح من أراضيه، تاجر فى قوته، قتل أحلامه، دهس تحت أقدامه الأخضر واليابس، طال كل شىء فى حياتنا، فخرج على السطح فهلوية ونصابون وحيتان، استغلوا غياب الإرادة السياسية وعجز الرقابة وبجاحة بعض المسئولين فى القطاعات المختلفة، فصاروا من أصحاب المليارات على حساب الشعب المطحون حتى النخاع.
بعد الضربات الموجعة لشبكات الفساد، نستطيع أن نمسك بتلابيب الأمل، خصوصا بعد أن توافرت الإرادة السياسية، ومنحت الصلاحيات لتفعيل دور الأجهزة الرقابية، وإطلاق يدها دون إذن مسبق من الرئيس، كما كان سائدا.
بواعث الأمل التى نتحدث عنها، لا تعنى أننا سنتيقظ بين يوم وليلة، على إعلان رسمى، مفاده، أن مصر دولة خالية من الفساد، كلنا يعلم أن المعركة طويلة، هى حرب ممتدة، فعلى الجهات المعنية بمحاربته، تنظيف صفوفها أولا، بدلا من دفن الرؤوس فى الرمال مثل النعام، كما علينا الاعتراف بأننا لا نعيش فى عالم مثالى، كما أن توجيه سهام الاتهامات صوب الحكومات وحدها، لا يرقى لمستوى الموضوعية، لذا ستظل تلك الاتهامات مجرد عبارات إنشائية جوفاء، ما لم نعترف بحجم مشاركتنا فى صناعة الفساد، فضلا عن الإقرار بحقيقة تبدو معلومة للكافة، لذا فإن الدعوات الرامية لإعلان الحرب على الفساد أصبحت ملحة وهدفا قوميا، على دوائر صناعة القرار، وضع خطة محكومة بتوقيت زمنى للقضاء عليه بتفعيل القانون والدور الرقابى على حد سواء، خاصة إذا علمنا بأن جماعات المصالح أصبحت بديلا للدولة، تقرر ما تراه وتقوم على تنفيذ ما تريده، أما الحكومات المتعاقبة فباركت تناميه، ولنا فى الواقع الحالى شواهد وأدلة يعانى من تأثيراتها الفقراء، وما أكثرهم ممن يدفعون الزيادة فى الأسعار التى أصبحت حقا مكتسبا لا يجوز المساس به أو الاقتراب منه، .بفعل غياب الرقابة.
إذن نحن جميعا تروس، ندور فى منظومة الفساد، لأننا نقبل مرغمين، تنفيذ ما يفرض علينا عنوة من سائقى الميكروباص فى مواقف النقل الجماعى، وإذا انتقلنا إلى سائقى التاكسى نجد أن غالبيتهم يقومون أيضا بالتلاعب فى العدادات لمضاعفة القيمة المستحقة على التوصيلة، الراكب فى هذه الحالة فاسد، وسائق التاكسى الفهلوى، فاسد، ورجال المرور الذين لا يفحصون العدادات فى لجان مفاجئة فاسدون، أيضا تجار الجملة والمسئولون عن توزيع السلع على المحال ممن يرفعون الأسعار تأسيسا على شائعات متناثرة عن ارتفاع سعرها، ينضم للقائمة التاجر الصغير الذى يقوم بزيادة السعر أو إخفاء الصنف بهدف التربح، وعندما يتوافر الصنف يكون السعر قد استقر وأصبح مسلما به من كل الأطراف، وفى هذه الحالة يصبح المواطن شريكا للحكومة النائمة وشريكا للجهات الرقابية الغائبة، لأنه استسلم طوعا لجشع التجار، ولنا فى ارتفاع أسعار السلع الأساسية دلائل، مثل السكر والزيت والأرز واللحوم والدواجن والخضروات والفاكهة.
علينا الاعتراف بأن ما يجرى على اتساع البلاد من مخالفات صارخة فى البناء بدون ترخيص والتوسع فى العشوائيات، لا يتم خارج نفس الثقافة، حيث يقف وراء هذه الفوضى موظفون مرتشون، وحيتان وأباطرة يعبثون بسوق العقارات وسرقة الأراضى وتشييد الأبراج الشاهقة بالمخالفة للاشتراطات، فضلا عن ترسانة القوانين المدفونة فى الأدراج بفعل المواءمات، ليحل بدلا منها التقارير الأمنية التى تعوق تنفيذ قرارات الإزالة الصادرة بشأن المخالفات يحدث هذا دون إدراك لمخاطر التدليس على شبكات البنية التحتية والمرافق إلى تكلفت مئات المليارات من الجنيهات
الفساد تجلى فى أبشع صوره داخل القطاعات المتنوعة، عبر إهدار الكفاءات والاستعانة بأصحاب المواهب فى النفاق ومحترفى التطبيل والبصاصين، فمثل هذه النماذج تفعل ما فى وسعها لإرضاء رؤسائها، بتنفيذ رغباتهم لإعلاء قدر التعليمات على القانون، فدهست القيم لصالح المحسوبية والمجاملات.