يحلف الوزير، أى وزير، اليمين على احترام الدستور والقانون، ورعاية مصالح الشعب رعاية كاملة، بمعنى أنه شخصيا ملتزم بما أقسم عليه أمام الشعب وأمام الرئيس، وأنه شحصيًا، مسئول مسئولية كاملة عن كل ما يصدر من كبار معاونيه، باعتبار أن قراراتهم تخضع للقانون، ولا تخالف السياسة العامة، لكن هذا شىء، أما الواقع على الأرض فهو شىء آخر، حيث لا يوجد احترام للقانون، كما لا يوجد شعب بالأساس فى حسابات أى وزير، تجلى ذلك بجلاء فى حشد المتحدثين بأجر معلوم للدفاع عن السياسات الفاشلة لتبرير خطايا معاونى الوزراء بدلا من محاسبتهم، بما يؤكد لنا أن القَسَم الذى كنا نحسبه بسذاجة مفرطة، مقدسات، لا يساوى شيئا، فهو مجرد أمر شكلى، بروتوكولى، يتبخر مفعوله فى الفضاء الواسع فور الانتهاء من مراسم تلاوته، كما أن مخالفته، وهذا هو المهم، لا تدخل فى نطاق «الحنث» باليمين.
ربما يرى البعض أن هذا القول به جنوح نحو المغالاة فى انتقاد الحكومة، لكن الإجابة عن هذا التصور إن طرأ على ذهن أحد جاهزة، ليس على لسانى فقط، بل على ألسنة الغالبية التى كرهت التعايش، قهرًا، مع حكومة أدمنت الفشل فى جميع المجالات من التعليم إلى الصحة ومن الاقتصاد إلى الزراعة، حكومة كسيحة، عاجزة، لا تقوى على ملاحقة خطوات القيادة السياسية أو تنفيذ الطموحات الشعبية، هى نجحت فقط، فى خلق جو معاد لها، جراء سياساتها العشوائية المحرضة على كراهية النظام.
من المفارقات العجيبة، أن الحكومة تسير فى الاتجاه المعاكس لأهداف الدولة، أقول الدولة وليس الحكومة، خصوصا إذا نظرنا بموضوعية إلى رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى واهتمامه بمؤتمر الشباب الذى انطلق مؤخرا بمدينة شرم الشيخ تحت رعايته، كان عنوان المؤتمر براقا، ومضمونه ترجمة لأفكار التشجيع على الإبداع والابتكار فى الفنون والآداب والعلوم والتكنولوجيا، وهذه هى عناصر القوة الشاملة لأى بلد، يريد تبوء مكانة مرموقة فى المجتمع الدولى.
لكن وزارة التربية والتعليم لا علاقة لها بما جرى فى مؤتمر شرم الشيخ، فبدلا من التشجيع على الابتكار والإبداع، راح كبار المسئولين بها يدهسون ما تبقى من أمل فى النفوس، وأنا هنا لا ألقى الاتهامات بصورة عشوائية على طريقة قراراتهم العشوائية، أو على طريقتهم فى إهدار التشريعات وإلقائها فى سلة المهملات عينى عينك.
تابعت بقدر من الاهتمام المشحون بالترقب أزمة الخبراء والمدربين المنتدبين بالمراكز الاستكشافية للعلوم والتكنولوجيا، وهى أزمة، فى تقديرى، لا يمكن النظر إليها من زاوية رؤية ضيقة، تقتصر فقط على متابعة ردود الأفعال الرسمية والوعود الوهمية لفض الاحتجاجات التى تنوعت مشاهدها وانتقلت من مكان إلى آخر من ديوان عام وزارة التربية والتعليم إلى البرلمان مرورا بمجلس الوزراء، إنما هناك ضرورة للنظر إلى القضية من زاوية أوسع وأشمل، لارتباطها الوثيق بإهدار أحد أهم عناصر القوة الشاملة لتقدم هذا البلد.
القصة وفق متابعتى الدقيقة لتفاصيلها، أن العاملين بالمراكز الاستكشافية يبلغ عددهم نحو ٧٠٠ خبير ومدرب، من المتخصصين فى مختلف مجالات الفنون والعلوم والتكنولوجيا، جرى ندبهم من جهات عملهم بالمدارس والإدارات التعليمية، وفق تخصصاتهم، للعمل فى عدد من المراكز على مستوى الجمهورية، هؤلاء أمضوا سنوات طويلة تحت لافتة «ندب» دون تثبيت، وبمضى المدد الطويلة استقرت أوضاعهم الاجتماعية فى الانتقال من مناطق سكنهم للإقامة فى أماكن مجاورة لجهة العمل، كما تم نقل أبنائهم إلى مدارس قريبة من محل الإقامة الجديد، وفجأة صدرت فرمانات عنترية بإلغاء ندبهم بعد السنوات الطويلة بالمخالفة للقانون، فهناك من يريد فرض سطوته فى تعيين بدلاء لهم للانصياع لرغباتهم.
ظل أمل التثبيت أو تجديد الندب يراود خيالاتهم، ظنا أن الحكومة ملتزمة برعاية مصالح الشعب كما أقسم وزراؤها، إلى أن صدر قانون الخدمة المدنية الذى أثار جدلا واسعا أثناء مناقشته تحت قبة مجلس النواب، استبشروا خيرا بالقانون الذى رقصت له الحكومة طربا، ظنا أنه سيكون منصفا لهم بحسب الوعود، لكن من دون سابق إنذار، وتحديدا قبل صدور اللائحة التنفيذية للعمل بالقانون، تبدد الأمل وتفتقت أذهان محترفى ابتكار المعوقات لإثبات سطوتهم ونفوذهم فى دواوين الحكومة، تعبيرا بأن رؤيتهم أهم من القانون.
ما الذى جرى.. فى مركز القبة الذى تترأسه عبير محمد عراقى تم إجبار المنتدبين وعددهم ٨٣ بالتوقيع على إقرارات ندب جديدة بالمخالفة للقانون عن طريق مسئول كبير داخل الوزارة اسمه أحمد مصرى، تجلى الإذعان فى تهديدهم بوقف المرتبات والحوافز فى حالة عدم الامتثال للقرارات الجائرة، كان القصد من الإذعان، تفويت الفرصة وضياع حقهم فى التثبيت أو تجديد الندب فى أسوأ الحالات.
المثير للدهشة أن تلك القرارات العشوائية صدرت دون القراءة الدقيقة لفلسفة تأسيس تلك المراكز، فهى قامت بالأساس على تبنى واحتضان الطلبة والشباب المتفوقين والمخترعين، بهدف تنمية مواهبهم وتطوير أفكارهم العلمية والبحثية، تحت إشراف خبراء حصلوا على دورات فى تخصصاتهم لهذا الغرض.
هذه التصرفات تعنى أن الحكومة وراء النفخ فى إشعال الأزمات وتوسيع دوائر الغضب ضد سياساتها العشوائية، فضلا عن والتحريض ضدها والمطالبة بإقالتها ومحاكمتها سياسيا قضائيا على كل تصرفاتها وأساليب التضليل التى تمارسها علنا.
كنا نظن، وبالطبع ليس كل الظن إثم، أن تلك الحكومة ستكون عونا وسندا للرئيس فى ترسيخ قواعد العدل، القائم على احترام القانون والدستور، إلا أنها أصبحت عبئا عليه وعلينا فى آن واحد، الأمر الذى يفتح باب التكهن حول عدم إقالتها، خصوصا إذا علمنا أنها قامت بتضليل نواب البرلمان فى كل ما يتعلق بقانون الخدمة المدنى، خاصة المادة «٣٣» الخاصة بندب الموظفين على حماية حقوقهم، وهذا نصها..
«يجوز بقرار من السلطة المختصة، ندب الموظف للقيام مؤقتًا بعمل وظيفة أخرى من ذات المستوى الوظيفى لوظيفته أو من المستوى الذى يعلوه مباشرةً فى ذات الوحدة التى يعمل بها أو فى وحدة أخرى، إذا كانت حاجة العمل فى الوظيفة الأصلية تسمح بذلك.
ولا يجوز ندب الموظف خارج الوحدة إلا بناء على طلبه. وتُحدد اللائحة التنفيذية القواعد الخاصة بالندب على ألا تزيد مدته على أربع سنـوات، وللوحدة المنتدب إليها الموظف اتخاذ اجراءات نقله من الوحدة المنتدب منها، بعد هذه المدة وفى حالة رغبة الموظف، ووفقا لحاجة العمل».
هنا علينا التوقف قليلا، بهدف إلقاء الضوء على مضمون المادة المتعلقة بالندب، فهى حددت مدة الانتداب بأربع سنوات، بعدها يصبح على الجهة المنتدب إليها اتخاذ إجراءات نقله، وفقا لحاجة العمل.
جميع العاملين فى تلك المراكز مرت على انتدابهم فترات تتراواح من ٨- ١٥ سنة، وتوجد وثائق رسمية تبدو فى غاية الأهمية، تؤكد تلك الحقائق، وفى الوقت ذاته، تدحض تبريرات الوزارة الوهمية التى صدرت على أفواه المتحدثين باسمها فى إطار الدفاع المستميت عن الخطايا، ومفادها وجود عجز بالمدارس فى تخصصات المنتدبين، والوثائق تفضح هذه الادعاءات.
فى إطار متابعتى لمشاهد الأزمة، وجدت وثيقتين صادرتين من مديرية التربية والتعليم بالقاهرة وموجهتين إلى وزارة التربية والتعليم، إحداهما بتاريخ ٣ مايو ٢٠١٦، والثانية بتاريخ ٩ مايو ٢٠١٦ بالموافقة على تجديد ندب ٦٩ خبيرا ومعلما، بما يؤكد عدم وجود عجز فى تخصصات المنتدبين، ويفضح أساليب الإذعان التى مورست عليهم. إذن نحن بالفعل أمام واقعة، ليست أقل من فضيحة سياسية، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات ومعان، هذه الفضيحة كافية لإقالة الحكومة بأكملها وليس كبار المسئولين ووزير التربية والتعليم وحدهم، لو كان لديها فهم لحدود المسئولية السياسية والإنسانية تجاه المجتمع، بعد أن راحت تبحث عن الأساليب الملتوية باصطناع مبررات مغلوطة جملة وتفصيلا، ظنا أنها ستريح وتستريح، دون إدراك من جانبها أنها تساهم فى ترسيخ ثقافة الفساد، وغير ذلك من الأمور التى نجنى ثمارها وندفع ثمنها. هذه الواقعة من وجهة نظرى تتجاوز مفهوم التسلط الوظيفى فى قطاعات الوزارة، وتمتد إلى مناح تتعلق بنشر العبث فى أرجاء البلاد، فهى إن شئنا الدقة تندرج ضمن مكونات صناعة الفوضى لما سيترتب عليها من فقدان للثقة فى مؤسسات الدولة، خصوصا إذا علمنا أن الفساد لا ينمو إلا فى بيئة يتراجع فيها القانون أمام سطوة المحسوبية وغطرسة المنصب، لذا فإن الفصل فى هذه الأزمة يحتاج إلى إرادة حقيقية لإنقاذ مئات الأسر، ولن يكون هناك إصلاح حقيقى فى التربية والتعليم، من دون وضع استراتيجية جادة للقضاء على الفوضى.