خيط رفيع لكنه فاصل بين الحقيقة والمصارحة.. وبين ممارسة (جلد الذات). أقلام لا حصر لها من العالم العربى طرحت كتاباتها نماذج لكلتا الحالتين خلال أزمات فى التاريخ المعاصر كادت تعصف بالمنطقة وإن كانت لا تبلغ خطورة تحديات اللحظة الحاضرة، ما يرجح وجود أزمة تكمن فى الفارق بين سرعة الأحداث التى تلقى بظلالها على المنطقة وطبيعة القرار السياسى العربى.
منذ أواخر عام ٢٠١٠ - ثورة الياسمين فى تونس - بدا واضحًا أن مطالبات التغيير فى الشارع العربى لم تضع ضمن أولوياتها أسس مشروع سياسى يستند إليه الواقع الجديد الذى فرضه تحرك الشعوب. نفس الخطأ الكارثى أسفر عنه التدخل العسكرى فى دول عربية أخرى تاركًا إياها فى حالة فراغ أمنى وسياسى سرعان ما أصبحت أرضًا خصبة لكل التنظيمات الررهابية. بعد هذه السنوات استفاق العقل العربى على واقع أصبح يهدد المنطقة بأسرها وليس فقط دولًا محددة تعانى من صراعات مسلحة. حين يُطرح تعبير (مشروع سياسى عربي) تسارع بعض الآراء إلى استدعاء التوجه السياسى الذى غلب على فكر وخطابات كان الزعيم جمال عبدالناصر يلهب بها الحماس الوطنى من المحيط إلى الخليج بينما الواقع العربى المعاصر يستدعى التحرك فى إطار بناء هذا المشروع بالطبع ليس عبر استنساخ النموذج من الستينيات لكن وفق المتغيرات الحالية.
إدارة السياسة المصرية الخارجية أدركت أن سبيل الخروج من الأزمات لن يكتب له النجاح إلا عبر إحياء صيغة عربية مشتركة. شهدت الأشهر الماضية تنشيط دورها فى ملفات شائكة مثل «سوريا، ليبيا، العراق» ومؤخرًا لبنان الذى تجاوز أزمة الفراغ السياسى بعد تقريبًا عامين من خلو منصب رئيس الجمهورية. القراءة المصرية للمشهد العالمى تضع فى حساباتها واقع جديد لخصه بكلمات رئيس وزراء السويد السابق كارل بلدت (حاليا نشهد نهاية الغرب الذى نعرفه).. صدمات متتالية بدأت مع (بريكست) أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.. وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أمريكا.. عودة الأحزاب اليمينية فى ألمانيا وفرنسا إلى صدارة المشهد السياسى تغييرات جذرية تشير إلى مراجعات لعدة ثوابت قامت عليها دول أوروبا سواء فكرة التوحد فى كيان اقتصادي - سياسي - أمنى أو عقيدة احتضان الجاليات الوافدة من الشرق الأوسط. ومع ارتفاع صوت الدعوات إلى (انغلاق) كل دولة على أزماتها لم يبق أمام الدول العربية سوى الاعتماد على صيغة تقارب خاصة بها للخروج من آثار كارثية خلفتها إما المغامرات العسكرية غير المدروسة من أمريكا وقوات حلف الأطلسى أو افتقاد البديل السياسى القادر على سد فراغ مرحلة ما بعد التغيير الذى فرضه الشارع العربى. الحكمة أو الحنكة السياسية تفرض على دولة مثل المملكة السعودية فى إطار دورها كقوة عربية مؤثرة عدة مراجعات. من البديهى أن يتوجه التحرك السياسى والعسكرى السعودى تجاه إيران فى سياق الأطماع الإقليمية لكل من تركيا وإيران التى مارست كل منهما توغلها بحرية فى ظل الفراغ السياسى العربى. السعودية لديها رصيد من المخاوف التاريخية المشروعة ضد امتداد النفوذ الإيرانى الذى توحشت مظاهره منذ الحرب العراقية - الإيرانية حتى الآن. التصدى دفع السعودية نحو اختيار الطرف الإقليمى الآخر - تركيا - على حساب الانحياز إلى القوى العربية المؤثرة وعلى رأسها مصر - ما أوقع الموقف السعودى فى حالة تضارب مصالح بين طرفى موقفها ضد إيران.. وعلاقتها الحميمة مع حليف تاريخى - أمريكا - التى افتخر حزبها الديمقراطى باعتبار إعادة دمج إيران فى المجتمع الدولى أفضل إنجازاته وهو أيضا أدى إلى امتداد الحرب التى تقودها فى اليمن ضد قوات الحوثيين التى تحظى بدعم إيرانى. إدراك السعودية أنها ليست بمنأى عن تهديد التنظيمات الإرهابية - سواء شيعية أو سُنية - كان يقتضى وقفة تقييم قبل الاتجاه إلى صيغ تحالف مع نظام أردوغان الذى جعل من هذه التنظيمات (العصا) التى يوجهها لترسيخ القمع والفاشية التى يمارسها سواء على نطاق سياساته فى الداخل أو على الدول التى تصدت لأطماعه فى استعادة نفوذ الخلافة العثمانية.
ابتعاد الدور السعودى عن المشاركة فى رسم مشروع (عربي) لمستقبل المنطقة أمر غير مقبول أمام الانخراط الإيراني - التركى من جهة.. والأمريكى - الروسى من الجهة الأخرى وتجنبًا لفرض مشروع سياسى من الخارج على المنطقة.. الأمر الذى أثبت نتائجه الكارثية منذ المحاولات الأمريكية الفاشلة فى العراق بعد عام ٢٠٠٣. وفق التصريحات التى بدأت تصدر عن مستشارى ترامب مؤكدة أن أولوياته إعطاء دور أكبر للدول العربية فيما يتصل بترتيبات أمن المنطقة وهو ما يستدعى عربيًا وجود تحالف سياسى قوى يملك زمام التنسيق مع الإدارة الأمريكية الجديدة بعيدًا عن الانسياق خلف تحالفات إقليمية لن يجنى منها الواقع العربى سوى المزيد من الرضوخ إلى مصالح وأطماع هذه القوى.