منذ الأسبوع الماضى يحاول العالم استيعاب المفاجأة التى حققها الوافد الجديد إلى البيت الأبيض.. لا تصبر لهفة العالم على اكتشاف دونالد ترامب «الرئيس» بعدما صدمه كثيرا ترامب «المرشح».
البديهى أن الفرق بينهما شاسع، والوقت ما زال مبكرا للحكم كما ذكرت فى عدة لقاءات. الخطوط العريضة التى يمكن الاعتماد عليها حتى الآن فى رسم ملامح إدارة الرئيس الجديد تعتمد على الصيغة «المنقحة» من خطاباته التى لم تخل من الحدة أثناء الحملة الانتخابية.
رغم ما أعلن عن تسريبات حول إعطاء الرئيس المنتهية ولايته أوباما وعودا إلى أطراف بعدم إقصاء بشار الأسد عن طريق القوة.. إلا أن المؤشرات بعد وصول ترامب إلى الرئاسة تؤكد مسارها نحو الحلول السياسية للأزمة السورية، وهو ما دعا إليه الموقف المصرى مرارا للخروج من المأساة التى أحالت أرض سوريا إلى ساحة اقتتال بين التنظيمات الإرهابية. إدارة أوباما، التى أنهت ولايتها بقطع المفاوضات الأمريكية - الروسية حول الملف الروسي، ألقت بظلالها السلبية، بل أغلقت بارقة الأمل أمام التوصل إلى أى صيغة سياسية.. فى المقابل، نجح الرئيس الروسى بوتين فى ترسيخ معادلة وجود قوتين دوليتين تستعيدان الملامح العامة لروسيا ما قبل عهد جورباتشوف ويلتسين. ترحيب ترامب بإعادة فتح قنوات التواصل مع روسيا ومنح الأطراف العربية فرصة القيام بدورها فى إطار تراجع الاهتمام الأمريكى بالمنطقة العربية.. كلها مؤشرات من شأنها إعطاء مساحة للحلول السياسية فى محاولة أخيرة للحفاظ على وحدة وتماسك كيان الدولة السورية. التحدى الأكبر أيضا أمام هؤلاء القادة يكمن فى فرض التسوية السياسية دون إعطاء فرصة اقتناص هذا المسار وتسجيله بمثابة انتصار سياسى وعسكرى يُسجل لصالح الدور الإيرانى فى سوريا.
ما يضاعف تعقيد ملفات سوريا والعراق، تشابك مصالح ونفوذ قوى إقليمية تتنازع أدوار الهيمنة على الدولتين.. إيران التى تمتعت طوال العهد الديمقراطى بسياسة الانفتاح الأمريكى عليها، وتم تتويج هذه التهدئة باتفاقية (٥+١).. بل تمادت أمريكا فى سياسة غض البصر عن التمدد الإيرانى فى المنطقة أو حتى تحايل إيران على بنود الاتفاقية الدولية بتجاوز الكميات المحددة لتخصيب اليورانيوم.. وبدأت منذ أيام فى هدوء تام نقل كميات من هذه المواد خارج إيران. بعيدا عن «حميمية» العلاقة حاليا.. ترامب سيتعامل بعقلية رجل الأعمال وفق ما أشار إليه أثناء الحملة عن ثروات المنطقة، مؤكدا حق أمريكا فى بترول العراق الذى تعتبره إيران من مناطق نفوذها منذ الغزو الأمريكى عام ٢٠٠٣ ، بينما أكبر شركات البترول فى تكساس لم تحصل سوى على نصيب هامشى من «كعكة» بترول العراق. على الصعيد السياسي، فإن مرحلة ما بعد الحرب على داعش تفرض على حكومة رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى إعادة بناء كيان سياسى صلب قائم وفق حسابات عراقية «فقط» بدلا من انتظار فرض تسوية سياسية سواء من أطراف إقليمية أو دولية. الأمر الذى أثبت نتائجه الكارثية على العراق منذ عام ٢٠٠٣.
من أكثر المواقف العربية إثارة للدهشة التمويل الذى حشدته بعض الدول لدعم حملة هيلارى كلينتون! خصوصا أن علاقتها بتنظيم الإخوان الدولى ودور مساعدتها «هوما عابدين» فى خلق صيغ التقارب بين كلينتون والإخوان تجاوزت التكهنات إلى كونها حقائق متداولة. قد يبدو الأمر مفهوما فى حالة كيان مثل قطر.. لكن دعم قوى عربية أخرى لمرشحة حزب يفتخر بسياسة الانفتاح على إيران رغم أطماعها التى تشكل قمة مخاوف هذه الدول -وهى مخاوف مشروعة- ضد مرشح أعلن حزبه مرارا رفضه لاتفاقية (٥+١) التى وقعت فى إطار إعادة دمج إيران ضمن المجتمع الدولى ورفع العقوبات عنها. رغم ضبابية موقف إدارة ترامب مستقبلا من هذه الاتفاقية. إلا أن المؤشرات كلها تؤكد الاتجاه نحو سياسة أكثر تشددا، خصوصا أن ضمن الترشيحات المبدئية لمنصب وزير الخارجية اسم الدبلوماسى المخضرم جون بولتون الذى عرف بتبنيه سياسات مشددة تجاه إيران. تبقى علامات الاستفهام الدائرة حول عدم اتساق موقف هذه الدول العربية مع مصالح المنطقة علما بأن إدارة ترامب ليست معنية بالمضى قدما فى المشروع الذى تبنته الإدارة الديمقراطية، وكان سيكتب له الاستمرار فى حال وصول كلينتون للرئاسة حول تقسيم المنطقة إلى كتلتى نفوذ طائفى (سُنّى وشيعي). رغم قيام حملة كلينتون على شعارات حقوق الإنسان والأقليات.. لم يسمع العالم صوت ديمقراطى واحد يتصدى إلى حملات القمع والفاشية التى بلغت الذروة منذ فشل الانقلاب العسكرى على حكم أردوغان فى تركيا، ولم تدخل مشاهد التنكيل الوحشى الذى قادته ميليشيا حزب (العدالة والتنمية) ضمن الشعارات التى تاجرت بها كلينتون وطوعتها لخدمة سياسات فاشلة أفقدت أمريكا دورها القيادى. الأدهى أنه فى إطار سياسة المراوغة التى عصفت بالمنطقة العربية سياسيا وأمنيا، لم تصدر أمريكا مجرد بيان شكلى يدين سفك الدماء الممنهج الذى تقوده قوات أردوغان على طائفة الأكراد، كما شرعت فى إقامة مآتم الصراخ والعويل على حقوق المثليين فى مصر!!. المؤشرات القادمة على صيغة التحالف الاستراتيجى بين أمريكا وتركيا غالبا ستقتصر مراجعاتها على ملف الإرهاب. حملة ترامب اعتمد جزء أساسى منها على مناهضة الإرهاب باسم الدين الإسلامى وتفنيد كل المزاعم السطحية التى روجت لها إدارة أوباما-كلينتون ومراكز الأبحاث والدراسات «الخائبة» عن التفرقة بين الإسلام المعتدل -فى إشارة إلى تنظيم الإخوان- والتنظيمات الإسلامية الجهادية، وضرورة دعم الأول للقضاء على الثاني! وأين يكمن فى هذا التقسيم الغريب اعتراف أبوبكر البغدادى بانتمائه إلى جماعة «عصابة البنا» قبل أن يتجه مؤخرا إلى صب لعناته عليهم؟
أمريكا فى عهد أوباما-كلينتون مارست أسوأ نموذج سياسى عرفه التاريخ المعاصر منذ عام ١٩٥٦ إثر قرار الرئيس عبدالناصر تأميم قناة السويس حين أحال قادة أمريكا وبريطانيا الحق المصرى إلى صيغة عداء شخصى. بعد ثورة ٢٥ يناير، رد أمريكا على اتهامها دعم جماعة «عصابة البنا» أنها الكيان الأكثر تنظيما وشعبية!! مقابل غياب الدور المدني، حتى إن بدا مقبولا «للبعض»، كل الممارسات الفعلية للإدارة الأمريكية، سواء حشد وسائل ومراكز التأثير على الرأى العام الأمريكى والدولي، أو الانحدار إلى «شخصنة» ثورة شعب فى ٣٠ يونيو، فيما بدا وكأنه رغبة محمومة فى الانتقام من ٤٠ مليون مصرى.. نموذج آخر على «تقزيم» الدور الأمريكى الذى تتحمل الإدارة السابقة مسئوليته. انزلق الثنائى أوباما-كلينتون إلى أدنى مستويات منهج انتقامى رخيص لا يليق بدولة تفتخر بعظمة جذورها الديمقراطية الراسخة.. لمجرد أن شعب أراد استعادة مقادير بلده من أيدى «عصابة» إرهابية.
كل الاتهامات التى وجهها المعسكر الديمقراطى حول «فزاعة» افتقاد المرشح الجمهورى إلى الخبرة السياسية من المنتظر ثبوت فشلها خصوصا فى ملف إعادة صياغة العلاقات مع مصر بكل ثِقل دورها المحورى فى الشرق الاوسط، إذ من المعروف أن الحزب الجمهورى الذى حظى أيضا بأغلبية فى الكونجرس يتبنى موقفا أكثر فهما لحقيقة الأحداث فى مصر ودورها فى محاربة الإرهاب.