مع كل تقدم تحرزه القوات العراقية فى تحرير مدينة الموصل وباقى مدن محافظة نينوى.. تتزايد شراسة الحرب الإقليمية على هذه المنطقة.. صراع ليس بعيدا عن متابعة القوى الدولية، سواء روسيا التى أعادت ترسيخ دورها فى الشرق الأوسط.. أو أمريكا التى اقتصر نجاح تدخلها العسكرى والسياسى فى الصراعات الدائرة داخل المنطقة العربية على عنصر المراوغة بين حليف جديد -إيران- توصلت معه إلى اتفاقية عُرِفت باسم (٥+١) تتغاضى بموجبها أمريكا عما حذر منه العاهل الأردنى عبدالله بن حسين منذ أعوام من خطورة فرض (الهلال الشيعي) على المنطقة فى مقابل كتلة سُنيّة.. وبين حليف قديم -تركيا- ما زالت تسعى إلى احتوائه ليشكل الطرف الآخر -السُنّي- فى معادلة التوازن بين الكتلتين.
فيما انتهجت إيران عبر تاريخها سياسة الهدوء والتخفى فى العمل على تحقيق مصالحها التوسعية بعيدا عن صخب المواقف الحادة.. أصبحت تركيا بالتصريحات النارية الصادرة عنها يوميا نموذجا صارخا للظاهرة الصوتية.. منذ إعلان بدء عملية تحرير الموصل، يطلق الرئيس التركى أردوغان وحكومته التهديدات الصاخبة حول حتمية التدخل العسكرى والمشاركة فى عملية التحرير من أجل حماية سُنّة العراق وطائفة التركمان التى تمثل النسبة الأكبر من سكان مدن محافظة نينوى، الأمر الذى يستدعى وقفة مراجعة أمام السبب المفاجئ وراء «هيستيريا» الحماس الجارف التى انتابت الموقف التركى الرسمى خصوصا أن قواته كانت متواجدة فى تلك المنطقة منذ عهد صدام حسين، ورغم كل الويلات التى اجتاحت العراق منذ ٢٠٠٣، لم يتحرك جندى تركى واحد لحماية طائفة التركمان حتى بعد احتلال تنظيم داعش أغلب مدن محافظة نينوى.. ذريعة الدفاع عن السُنّة فى العراق أيضا نموذج آخر للأداء الهزلى للمواقف التركية بعد هيمنة جنون الفاشية على أردوغان الذى تستبيح جنوده كل يوم دماء الأكراد -وهم سُنّة- وتشن عليهم الحروب فى مناطق مختلفة.. بل إن عملية (درع الفرات) التى قادتها القوات التركية على الحدود السورية لم تكم سوى عملية إبادة لأكراد سوريا بعد فشل أردوغان فى استقطاب أمريكا نحو حربه مع الأكراد.. من البديهى ألاّ تكتسب المزاعم التركية أى مصداقية لدى الشارع العراقى لأن أردوغان الذى يزعم حماية السُنّة هو من يريق دماءهم.. المؤكد أن الهواجس التركية فى تحرير الموصل لا تدور فى فلك الحرب على تنظيم داعش بقدر ما تتجه نحو الطائفة الكردية سواء فى العراق أو سوريا.. موقع مدينة الموصل قبل سيطرة داعش أيضا كان يُمثِل خط اتصال طبيعيا بين أكراد الدولتين، بالتالى انتفاضة الموقف التركى حدثت الآن بعد اقتراب عودة هذا الخط الذى ظل مقطوعا طوال مدة احتلال داعش للموصل، بالإضافة إلى أن مدينة «تلعفر» هى الممر النموذجى لعبور الإمدادات من إيران إلى سوريا، ما قد يدعم مستقبلا قوى وميليشيات تناصب تركيا العداء. فتوى المرجع الأكبر الإمام السيستانى الذى أصدرها عام ٢٠١٤ وبدأت بدعوة حشدية للجهاد ضد داعش تضم متطوعين من الشعب للقتال ضمن قوات الجيش العراقى حولت الأطماع الإيرانية دوافعها الوطنية إلى ممارسات أغضبت السيستانى وأبعدت دعوته عن جذورها الحقيقية. إيران لا تفوت فرصة إلاّ وتصدر على لسان أتباعها تهديدات تسىء إلى السيستانى عبر إلصاق صبغة الطائفية بدعوته.. لعل أبرز هذه الأمثلة التهديدات التى أطلقها قيس الخزعلى قائد ميليشيا عصائب الحق حول الانتقام من أهالى الموصل وتصريحات نورى المالكى رئيس الوزراء السابق «اليوم قادمون يا نينوى.. وغدا الرقة ثم حلب ثم اليمن».. كل هذه الممارسات انسلخت عن إعلاء مصلحة العراق أو حتى الانتماء إلى المرجعية الدينية التى يمثلها السيستانى والقائمة على مبدأ ضرورة بقاء رجال الدين بعيدا عن السياسة.. الأمر المؤكد أن كل خطوات تقنين وضع الحشد الشعبى والتى أعلن عنها مؤخرا البرلمان يجب أن تصدر من العراق وليس وفق حسابات إيرانية. مستقبل مدينة الموصل ذات الموقع الاستراتيجى ما زال يحمل أكثر من علامة استفهام.. لعل أبرزها يكمن فى إعلان قوات التحالف الدولى بقيادة أمريكا توقف العمليات العسكرية مدة يومين «لتعزيز المكاسب ضمن الخطة الموضوعة» كما نص الإعلان، رغم استمرار العمليات العسكرية بقيادة الجيش العراقى.. إذ لا يمكن ربط الإعلان الأمريكى بعيدا عن محاولاته إيجاد صيغة توازن بين الأطراف المشاركة فى التحرير عسكريا وسياسيا سواء بشكل مباشر أو بالنيابة.. أما التصريحات الأمريكية حول عزمها حصار داعش فى مدينة الرقة السورية قبل توجيه الضربة العسكرية القادمة، فإن هذه الخطوة لن تكتمل بدون تنسيق أمريكي-روسى فى وقت تكاد تكون هذه الصيغة منقطعة بين القوتين.. من جهة أخرى تظهر فى قراءة ما بعد النصر العسكرى إشكالية لا تخلو من الخطورة حول المستقبل السياسى لهذا الانتصار، خصوصا أن الأطراف الإقليمية المتلهفة على استغلال لحظة المستقبل «إيران، وتركيا» تبدو متحفزة للاستحواذ على أكبر قدر من الغنائم السياسية، وكلاهما يرفع بلا مواراة شعارات طائفية لتواجده على أرض العراق.