آفة الصراخ لا يقتصر انتشارها فقط بين الكثير من الجالسين أمام كاميرات القنوات الفضائية.. لكن الانفعال المبالغ ونبرة الصوت العالى فى اختيار «الكلمة» شكل للكثير من الكتاب والصحفيين - وما زال - جسراً ينقلهم إلى الشهرة عبر ادعاء البطولات الزائفة.. اعتنقوا مذهب (كلما ارتفعت نبرة الكلمة.. ازدادت نسبة البطولة). للأسف تمكنت بعض الصحف والأقلام فى زمن التخبط الإعلامى واختلاط الأوراق من إقحام هذا النهج ضمن بنود حرية التعبير والمعارضة.
نموذج صارخ على تطويع المصالح السياسية والمالية يطل على القارئ يوميًا فى شكل صحيفة يبدو للوهلة الأولى أنها تجمع فى خط ليبرالى مختلف الآراء والتغطيات الإخبارية بينما المتابعة المهنية الدقيقة تكشف إشارات واضحة تتبنى توجهًا محددًا لا تغيب طبيعته عن العاملين فى مهنة الصحافة.. كما لا يمكن إقحام عامل الصدفة على هذه الإشارات.. حين يتجه الموقف المصرى غربًا إلى دعم الجيش الليبى الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر ومساندة جهوده فى إعادة التماسك السياسى والأمنى إلى ليبيا وهو يحقق ضرباته الناجحة ضد «كوكتيل» التنظيمات الإرهابية التى دخلت لتحتل الفراغ السياسى والأمنى الذى خلفته ضربات قوات حلف شمال الأطلسى «ناتو».. تسارع الصحيفة إلى نشر حوارات مطولة مع شخصيات ليبية على اتصال مع هذه التنظيمات بل تسعى إلى جر ليبيا نحو جحيم تيارات تخفى تعطشها للسلطة والدماء تحت مسمى الإسلام السياسى.
ما أن يبادر الموقف المصرى فى إطار استعادة دوره العروبى إلى بذل مساعٍ من شأنها تحقيق انفراج فى الأزمة السورية سواء على نطاق تخفيف وطأة المعاناة الإنسانية للشعب السورى الدخول فى مفاوضات وقف شامل لإطلاق النار واستئناف المفاوضات السياسية للخروج بحل يحقق طموحات الشعب السورى، ويحافظ على وحدة أراضى البلاد ومؤسساتها السياسية والأمنية.. فى اليوم التالى تظهر على الصفحة الأولى حوارات مع مؤسسى «تنظيمات» اكتسب المواطن (المصري) خبرة جيدة بكل أكاذيبها.. تنظيمات اتخذت مسميات إسلامية وأقحمت نفسها على الشأن السورى كما فعلت مع باقى ثورات البلاد العربية.. بينما هى أصلًا قامت على إنكار الانتماء الوطنى والتحرر.. هكذا يحدث على التوالى التشكيك والتشويش على كل مواقف مصر العربية والدولية خلال عناوين ومحتوى يصب فى اتجاه انتقاد هذه المواقف. على صعيد التغطية الصحفية التى تعرضها على القارئ (المصري) عن بلده.. لا يختلف النهج العام للصحيفة عن أسلوب «الغمز واللمز» الرخيص بداية من صياغة العناوين فى الصفحة الأولى التى يحلو لها بشكل شبه يومى التقليل - إن لم يكن التسخيف - من كل بادرة إيجابية فى مقابل إضفاء صيغ المبالغة على السلبيات.. طبعًا الأعذار والمزاعم التى تحمى هذه الأساليب الملتوية لا تنتهى.. بداية من كونها مسئولية هيئة تحرير الصحيفة و«الديسك» المركزى.. وصولًا إلى الخطوط التى تحمى حرية التعبير والرأى، أما خطوط «الضمير» المهنى والوطنى.. كلها اعتبارات «هامشية» أمام المصالح الاقتصادية لأصحاب هذه الصحيفة، خصوصًا إذا كانت الشعارات البراقة مثل «الانحياز إلى الشارع» و«التعبير عن نبض الشعب وإرادته» هى مساحيق التجميل التى تخفى الوجه الحقيقى لتوجه أصحاب هذه الصحيفة. الإعلام المعارض حين يتخذ طريقه عبر مصالح رجال المال و«البيزنس» يفقد أبجديات المصداقية والحياد تجاه كل شىء.. ويتجرد من قيمة إعلاء المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
زيف هذا النموذج الملتوى لا يختلف كثيرًا عن مهنة «الصراخ» التى يمارسها بعض مدعى البطولة ممن ينتمون إلى المهنة.. صحيح أن إثارة الصخب حققت لهم «قشرة» الشهرة والنجومية التى أصبحوا عبيدًا لها، لكن المؤكد أن مقومات المهنية الإعلامية لا تدخل ضمن هذا الرصيد «العشوائي». الاهتمام الذى حظت به دقائق أوجز خلالها الأستاذ مكرم محمد أحمد فى كلمته اثناء إحدى جلسات مؤتمر الشباب فى شرم الشيخ خطورة الالتباس الذى طرأ على الإعلام المقروء والمرئى لم تكن فقط تشريحًا دقيقًا وموجزًا لأمراض المهنة.. فقد لمست أيضا مظاهر الخلط فى الخطوط الفاصلة بين ممارسات بعض الصحف الحالية وقيمة المعارضة التى لا تتناقض مع مبدأ الاصطفاف فى الوقت الذى تحاول فيه هذه الصحيفة وضع الكتلتين فى حالة صدام مستمر.
لا أحد يختلف على إيجابية مبدأ التنوع فى الفكر والرأى إلاّ أن كل الخيوط المتشابكة لا تستطيع حجب الرؤية عن الحدود الفاصلة بين فضيلة التنوع ودعاوى التفكك والتشكيك المرفوضة.
أجمعت الآراء على أن بشائر المعارضة - بكل الصدق والتجرد المطلوب - ظهرت فى شرم الشيخ وليس على أوراق هذه الصحيفة حين لمس الشباب على اختلاف توجهاته السياسية رغبة الرئاسة الجادة فى مشاركتهم رسم ملامح المستقبل.