بلوتنا فى تكرار أخطائنا، نرتكب الخطأ، وندفع ثمنه باهظا، ثم نعود لتكرار نفس الخطأ مرة تلو الأخرى، من دون أن نتعلم الدرس.. كنت طرفا فى نقاش حول فعاليات مؤتمر الشباب وجدواه، وما نتج عنه من توصيات، أرى أنها مهمة فى مضمونها، رغم انحيازى إلى فكرة إشراك الشباب فى قضايا الشأن العام بصورة واقعية، غير أننى توقفت أمام بعض الرؤى المطروحة من بعض المشاركين، أعرفهم عن قرب، فقد جاءت رؤاهم على عكس توقعاتى، فارغة، سطحية، لا ترقى إلى مستوى فكرة المؤتمر ومراميه، بل كان لافتا لى، وأظن، أنه كان لافتا لكثيرين، حجم الانتقادات والتهكم من بعض المشاركين، ظهر ذلك جليا فى تعليقاتهم على صفحاتهم، بما يشير إلى عدم تقبل الحوار البناء، وتعدد الآراء، معظمهم راح يطرح ما يحقق له المكاسب الذاتية.
أما الأخطر فهو ظهور الوجه القبيح لـفئة فاشية، يسعى أفرادها لفرض سطوتهم على المجتمع والدولة بكل الطرق، لتحقيق ما يريدون، ولو على حساب استقرار هذا البلد، فهؤلاء هم أنفسهم الذين تجاهلوا الشعب وراحوا يتحدثون باسمه فى ٢٥ يناير والفترة التى أعقبتها، فتضخمت ذواتهم، بفعل انصياع مؤسسات الدولة لرغباتهم، عبر رفضهم لكل ما يحدث من إجراءات ضد المتجاوزين للقانون، متجاهلين الفروق الجوهرية بين حرية الرأى وإثارة الفوضى، يصفقون لكل ما يتصورون أنه حقوق ومكتسبات ثورية، بدون دراية بأن الحرية لها معايير تضمن سلامة المجتمع من العبث.
إن أفراد هذه الفئة يظنون أنهم احتكروا الحقيقة والرؤية الصائبة، ولهم وحدهم دون غيرهم الحق فى توجيه سياسة الدولة على هواهم، رغم عدم امتلاكهم أى مقومات حقيقية تجعل المجتمع ينحاز إليهم وإلى رغباتهم ويتغاضى عن الانتفاخ وتضخم الذوات والاستعلاء البغيض الذى يمارسونه.
لذا لم يكن غريبا ألا نرى منهم سوى اقتناص الفرص، طالبوا فى المؤتمر بإلغاء قانون التظاهر والإفراج عن المحبوسين فى قضايا وجرائم تتعلق بأمن البلاد، غير أن تلك المطالب دخلت فى قائمة توصيات المؤتمر.
المثير أنهم وجدوا من يؤيدهم، باعتبارها مطالب تؤكد احتكار الوطنية، فى هذا الإطار لا يمكن إغفال تورط الدولة بكل مؤسساتها وعلى رأسها رئاسة الجمهورية فى هذا العبث، باتباعها لأساليب المواءمة عبر الوعود بالإفراج عن بعض المحكوم عليهم فى قضايا جنائية بدعوى أنهم ثوريون.. ألم يكن هذا قمة العبث باستقرار الدولة؟ عبر تدليل ومغازلة المطالبين بإهدار القانون، سواء بالحديث الدائم عن دورهم فى البناء والتنمية والنهوض وغير ذلك من المصطلحات أو المسميات المستهلكة.
لو فتحت الحكومة المجال لمواءمات مرفوضة على المستوى الشعبى، أو على الأقل مرفوضة من الغالبية ستتحول الدولة مسرحا لتشكيل جماعات ضاغطة لتعطيل القوانين، ويتم تعديلها كنوع من الغزل الرخيص الذى لا أمل من تكرار وصفه بأنه يشبه مداعبة مشاعر غانية لعوب تتدلل من كثرة المديح فى مفاتنها، فضلا عن أنها تثير الاشمئزاز ممن يتصورون فى أنفسهم القدرة على توجيه سياسة الدولة وإجبار أنظمة الحكم على الانصياع لرغباتهم.
إن ورود قانون التظاهر فى توصيات مؤتمر مهم بهذا الشكل، جعلنى أقر وأعترف، بأن قدرتى على فهم الأشياء كانت، وما زالت وستظل محدودة، لا ترقى إلى مستوى قراءة الواقع بصورة حقيقية، بمعنى أكثر دقة، لا ترقى إلى مستوى قراءته بصورة علمية عميقة، فلو كنت قادرا على الفهم، مثل جهابذة المعرفة ومحترفى الإفتاء فى كل شىء، لأصبحت فقيها بلا منازع فى كل القضايا الكونية، وتغيرت قناعاتى فى الكثير من الأمور، ولو أننى كنت واحدا من المنتمين لذوى العقول النيرة المستنيرة لأدركت، أن إعداد قانون للتظاهر «السارى شكلا» لم يكن لصالح هذا البلد بالمرة، واعتبرته مثل رافضيه، انحيازا أعمى لجريمة نكراء، ارتكبها وباركها، بلا وعى، أمثالى، عديمى الفهم، الحمقى، الجهلاء، فاقدى الأهلية الوطنية والسياسية، ارتكبوها، من دون دراية، فى حق الوطن، وحق الوكلاء الحصريين للوطنية، ارتكبوها وهم مغيبون، شاردو الأذهان، لا يعلمون أن الأمم تنهض بالثورات وتصبح فى مقدمة الأمم إذا كانت الثورات مستمرة.
أدركت بالصدفة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد، حقيقة عدم فهمى لكل الأمور الحياتية من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالشأن الاستراتيجى، أثناء متابعتى لوقائع المؤتمر، حيث لفت نظرى أن عددا من المشاركين فى فعالياته يحتلون مراكز متقدمة فى قائمة محترفى الصوت العالى ومدمنى شعار «الثورة مستمرة».
فكل منهم، جعلهم الله ذخرا للبشرية صار بقدرة قادر عالم علامة، رفيع الشأن والمقام، غمرونى بحالة روحانية حفزتنى على إعلان توبتى عن خطيئتى، كشف بجلاء لأمثالى أن الدولة المصرية من وجهة نظرهم الثاقبة، أصبحت فى حاجة ماسة لتكرار المظاهرات بمناسبة وبدون مناسبة، هذه الحقيقة كانت غائبة عن ذهنى وأذهان الملايين على شاكلتى، نتيجة عدم قدرتنا على فهم المتغيرات، وطبائع الثورات، لذا كان ضروريا وحتميا، ولا بد، من الإقرار والاعتراف بهذه الحقيقة.
الحديث عن تكليف الحكومة بدراسة إعادة النظر فى قانون التظاهر، بدا لى وكأن النظام يريد الاغتسال من ذنوبه والتطهر منها أمام الكل، وفى هذه الحالة فإن الاعتراف بالذنب يوجب اعتذار الدولة عن إصدار القانون الجائر الذى يقمع الحريات ويمنع عودتنا إلى الأيام الخوالى، الأيام الجميلة التى ساد فيها الأمن بدون انفلات، فالاعتذار مطلوب لاكتساب المصداقية أمام الشعب.
لا أخفى سرا أننى توقفت كثيرا أمام تلك الرؤية الثاقبة فى شكلها ومضمونها، لذلك لم أدخر جهدا فى أن أجرى حوارا مع نفسى، بعد أن تلبستنى حالة التفاعل الروحانية، سألت نفسى طبعا، يعنى إيه أجهزة أمنية تمنع التظاهر وكمان تفرض شرط إبلاغها عن مكان المظاهرة ومن المسئول عنها؟.. الشباب معهم كل الحق فى رفضهم لهذه الأمور، ولأنهم خبراء فى كل شىء فمن حقهم أن يتحدثوا عن أى شىء ويقولون ما يريدون، أما السؤال العميق الذى غاب عن ذهنى نتيجة عدم إلمامى بفلسفة الثورات، فهو.. هل توجد دولة ديمقراطية فى العالم يحدث فيها مثل هذا الكلام الفارغ؟.. دا طبعا، لن يجعل الثورة مستمرة، كمان معناه بالبلدى إننا فى دولة قمعية تحارب الشباب ولا تمنحهم الحق فى أن يصبح كل منهم أبوالعريف، يفهم كل حاجة فى أى حاجة، يفتى فى الشأن الاستراتيجى وأبعاد الأمن القومى، ويدلى بدلوه فى القضايا المعقدة، ولا حكيم زمانه، وصاحب رؤية ثاقبة، قادرة على رصد أسباب المتغيرات فى السياسة الإقليمية والعلاقات الدولية، ويقترح على الدولة إلغاء القوانين، فتستجيب إلى أفكاره العبقرية، لذا أرى ضرورة أن يحل النشطاء والشباب الثورى محل البرلمان، بلاها برلمان وانتخابات والذى منه، فهؤلاء سيضعون تصوراتهم للشريعات الرامية نحو النهوض والتقدم فى السياسة والاقتصاد، عبر توفير الحق لكل مواطن فى التظاهر هو وأصحابه، وبالمرة الحق فى قطع الطرق لضرورة ترسيخ مفهوم الحرية والديمقراطية.