أينما ذهبت، يداهمنى السؤال.. ما الذى سيحدث فى "١١-١١"؟
رغم أننى لا أملك إجابة محددة، وليست لدى رؤية واضحة أستطيع الإفصاح عنها، إلا أن الرغبة فى الاستفسار عن أسباب الدعوة للتظاهر، احتلت حيزا فى ذهنى، من أطلقها، فرد، أم جماعة، ما سر اختيار هذا اليوم بالذات، وكيف لدعوة من مجهول أو مجهولين، تحتل مساحة هائلة من اللغط فى أوساط الرأى العام، ولماذا انتقل صداها من مواقع التواصل الاجتماعى إلى جلسات النميمة السياسية وشاشات الفضائيات؟ وكيف استغلها جنرالات التحريض بصورة لا تفرق بين معارضة النظام، وهذا أمر مشروع للكافة، والثورة، رغم أن الدعوة لها ترسخت فى أذهان الغالبية بالتخريب؟
قبل الدخول فى جدل وتعارض وجهات النظر حول استجابة، أو رفض، المجتمع لدعوات النزول فى اليوم المحدد، من المنطقى أن تتدفق، كالسيل، تساؤلات أخرى، مجملها يستمد مشروعيته من الواقع المتردى على كل المستويات، فضلا عن ارتباطها بالغلاء وعدم قدرة شرائح متنوعة تمثل الغالبية المطحونة حتى النخاع، على ملاحقة الارتفاع الجنونى فى أسعار السلع الضرورية، التى دهست الجميع، لا فرق بين فقير، معدوم الدخل، أو متوسط الحال، يطلقون عليه، مجازا، محدود الدخل، الكل يعانى، الكل يصرخ، الكل يخشى من استمرار الفوضى، ناهيك بالسخط العام على الفساد، فقد صار مكونا أساسيا لسلوكيات المجتمع، الكل يذبح الكل، علنا، بلا رحمة، التاجر الكبير يتحكم فى تحديد الأسعار، بإخفاء السلع، التاجر الصغير يسرق المواطن، سائق التاكسى يتلاعب بالعداد، بزعم ارتفاع أسعار قطع غيار السيارات، الرشاوى فى جهات تقديم الخدمات للمواطنين، حدث ولا حرج، أصبحت علنية، وكأنها رسوم سيادية، على متلقى الخدمة أن يدفعها فى صمت، أما أجهزة الدولة فهى غائبة، تماما، ليست موجودة بالمرة، تركت الكل ينهش فى لحم الكل، من دون أن نعرف السر الكامن وراء صمتها، هل ترهلت، تصلبت شرايينها، صارت عاجزة، كسيحة، أم أنها تريد، بحماقة، دفع المجتمع للغليان من دون حساب لعواقب الغضب، الجميع يعلم أن الحكومة فشلت فى التجاوب مع المتطلبات الحياتية، وبقاؤها أصبح عبئا على النظام وكارثة على الشعب، وهذه حقيقة، لا يستطيع أحد إنكارها، مهما بلغت درجة تأييده لمؤسسات الحكم، سواء كان التأييد، بوعى، أو بدون وعى، بالعقل، أو بالعاطفة، فأحيانا يتحول الدعم المطلق بدون روية، إلى وبال على النظام نفسه، على طريقة الدبة التى قتلت صاحبها، جراء الجهل بضرورات المواءمات خصوصا فيما يتعلق بالأحوال المعيشية، أيضا لا يمكن إغفال الضجر من سوء الأوضاع الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية، مهما بلغت الحدة، فى رفض التجاوب مع القوى الداعية للتظاهرات.
إن الإقرار بتلك الحقائق المتجسدة على الأرض، الملموسة من الكافة، مسئولية وطنية، لكنها فى ذات الوقت، أى الحقائق، ليست مبررا للسير فى «زفة» دراويش موالد المظاهرات، نشد معهم الرحال إلى الميادين ونتمايل، طربا، فى حلقات الذكر، كمجاذيب، مغيبين عن الواقع، غائبين عن الوعى، هائمين على وجوهنا، نتبرك بـ«رزائل» أتباع الشيطان، ممن جعلوا جيوبهم صناديق نذور، يتلقون النفحات من البيت الأبيض وخزائن معتوه «قطر»، مقابل العزف على أوتار الفتنة، والتحريض على هدم الوطن، وكأن الوطن ألعوبة فى أيدى صبية مراهقين، يلهون به وقتما يريدون، أو أن الشعب فوضهم لكى يتولوا أموره، يخرجون باسمه ويتحدثون عن معاناته تحت لافتة هزلية، «الشعب يريد»، فلا الشعب فوضهم ولا البلاد فى حاجة إلى الإرباك، وإضافة مزيد من الخراب، هذه الحقيقة أكثر بريقا ولمعانا من الحقائق الأخرى.
فى الأسابيع القليلة الماضية نشط كهنة البيت الأبيض وذيول المراكز البحثية المشبوهة، على شبكات التواصل الاجتماعى، تعالت أصواتهم بهدف التفاعل مع دعوة، لا يعرف أحد بالأساس من أطلقها، كما أن أصحابها لم يمتلكوا جرأة الإفصاح عن هويتهم، وميولهم ورغباتهم، فقط وجدوا ضالتهم فى الغضب الشعبى من فشل الحكومة وعجز، أكرر مرة أخرى، عجز أجهزة الرقابة التى تركت الحابل يختلط بالنابل، فبدأت موجة التحريض على التظاهر والترويج لما سموه بـ«ثورة الجياع».
المتابع بدقة للمشهد العام، يكتشف، بدون عناء، أن أصحاب الآراء الحنجورية التى تتحدث عن ثورة الجياع، هم أنفسهم الذين دعموا النظام وروجوا لمحاسنه، وقت أن كانت تتم دعوتهم للقاءات ومناقشات مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، حققوا مكاسب لا بأس بها، حصلوا على مقابل الظهور فى الفضائيات كخبراء ومنظرين، لتحليل ما دار مع الرئيس من مناقشات، والإدلاء بأخبار طازجة عن التوجهات السياسية لوكالات الأنباء، كثرة اللقاءات والمكاسب جعلتهم يتصورون أنهم أوصياء على الدولة، ولا بد من وجودهم على مائدة الحوار مع الرئيس، ليل نهار، وإن لم يتواجدوا فهم جاهزون بالدعوة للثورة، وكأن الشعوب تقتات الثورات، وتدمن التغيير.
هؤلاء الذين يصدعون رؤوسنا ينتمون إلى فئة أصحاب الملايين، ولا علاقة لهم بالفقراء، لكنهم «هبوا» فجأة للدفاع عنهم والقيام بثورة لأجلهم، محفزين أتباع البرادعى وفلول الإخوان للانضمام إليهم، تارة يتحدثون عن ضرورة التنسيق بين القوى الوطنية، أو التحالف من أجل الثورة، وتارة أخرى يتحدثون عن الجياع، مرتدين ثياب المعارضة.
إن معارضة النظام جزء من المكون السياسى للدولة.. نعم.. لكن نخبة العار، لا تعارض لصون الوطن أو حمايته من العبث، ولا تعى تداعيات ما تقوله أو تنادى به، هم يعلمون بحكم إلمامهم بقضايا الشأن العام أن البلاد لم تتعاف بعد من النكبات التى تعرضت لها، بفعل ممارساتهم الفوضوية من ناحية، والإرهاب من ناحية أخرى، هؤلاء يتحدثون عن الحرية ولا يوجد سقف فى اتهامهم لنظام الحكم، وهذا حقهم فى إطار المعارضة، وأمر مشروع، نظل جميعا ندعمه ونقاتل من أجله، لكن أن تتحول حرية الرأى لإثارة الفوضى، فى ظل ظروف وأوضاع معلومة للكافة، منها ما يجرى فى سيناء وعلى الحدود الغربية مع ليبيا، ومحاولة إرباك الجبهة الداخلية، لتشتيت جهود أجهزة الأمن، ناهيك بمشاهد الحرب الاقتصادية، أيضا، أكاد أجزم بأن المخاطر التى تتعرض لها البلاد أصبحت معلومة للشرائح الفقيرة التى تئن من الواقع، لكن هى ذاتها المساندة لمؤسسات الدولة ضد التخريب، نعم، يصبون اللعنات فى وجه الحكومة، لكنهم رغم المعاناة، لديهم القدرة على التفرقة بين الحكومة ومؤسسات الدولة، لذا لم يكن غريبا وصف بعضهم تلك الدعوة وغيرها من الدعوات القادمة، أنها تحليق فى الخيال، وترجمة لأوهام المتربصين الداعمين للفوضى، تجلت بصورة واضحة فى الدعوة الخبيثة التى أطلقها محمد البرادعى على شبكة التواصل الاجتماعى «تويتر»، زاعما أن ما يجرى فى سيناء هو تبادل عنف بين طرفين يتطلب التهدئة، فهذه المصطلحات دأب على ترديدها بمناسبة وبدون مناسبة، باعتبارها «سبوبة» للاسترزاق والبقاء فى المشهد كنموزج يمثل المعارضة المتسكعة على أبواب جهات التمويل فى العواصم الغربية.
أوهام «البرادعى» المشحونة برغبة الظهور والتطلع إلى الزعامة، جعلت رجل البيت الأبيض، الذى يعمل فى الظلام مع أجهزة الاستخبارات «واعظا» ينشد المثالية على طريقة المتصوفين الزاهدين ينبذ الدم المسال فى سيناء ويدعو إليه فى الميادين.
فى النهاية، أستطيع القول إن المشهد برمته كشف عن تفشى الأمراض النفسية الـ«شيزوفرينيا»، سواء فيما يخص البرادعى أو يخص النخبة السياسية، فالأول يصدع رؤوسنا ليل نهار عن التغيير الثورى بتغريداته على «تويتر» بما يؤكد أنه مصاب بلوثة عقلية، خصوصا عندما جعل الإرهابيين أندادا للدولة، أما النخبة السياسية فحالها لا يختلف كثيرا عن البرادعى تقول الشىء وتفعل نقيضه.