مع بوادر كل أزمة تطرأ على المنطقة، تتجه الأنظار نحو جامعة الدول العربية، تتجاذبها الآراء التى تتفاوت بين دعم الجهود لإعادة عناصر القوة والمبادرة إلى هذا الكيان العريق، وبين دعوات «راديكالية» لإلغائها، بعدما أصبحت فى نظر البعض مجرد مؤسسة بيروقراطية محدودة الفائدة، مع كل اختيار جديد لمنصب الأمين العام تتصاعد وتيرة المقترحات أملا فى «عودة الروح» دون مراعاة أن تداعيات تهميش دور الجامعة من شأنه خلق المزيد من التعقيد على «سُحُب الصيف» التى تهب أحيانا على العلاقات بين الدول العربية. المنطقة شهدت مؤخرا نموذجين يمثلان وقفة هامة أمام الدول الأعضاء لمراجعة مواقفها من الجامعة التى أصبح للأسف يغلب عليها «الانتقائية» والتعالى.
الخلاف فى وجهات النظر بين مصر والسعودية الذى شغل الرأى العام العربى خلال الأسابيع الماضية لم يكن وليد اللحظة، الموقف السياسى لكلتا الدولتين كان واضحا ومعبرا عن القناعة السياسية التى يتبناها كل طرف، بالتالى لا يوجد سبب منطقى وراء عدم حدوث تنسيق مسبق فى المواقف داخل إطار الجامعة، بهدف الوصول إلى «درجة» من التقارب قبل طرح القرارين الروسى والفرنسى فى مجلس الأمن، علما بأن السعودية لها دور نشيط ومؤثر فى الجامعة العربية.. فى المقابل، مصر هى الدولة العربية الوحيدة ضمن أعضاء دول مجلس الأمن، مما كان يتطلب تنسيقا بين الدولتين فى إطار الجامعة العربية قبل طرح القرارين للتصويت فى مجلس الأمن.
تركيز السعودية على التنسيق الإقليمى مع تركيا يعكس عدة حقائق تتطلب المراجعة.. أولا، أهمية ظهور موقف عربى موحد أمام المجتمع الدولى لم يعد «ترفا» أو مجرد شعارات توضع داخل متحف «المصطلحات السياسية»، إذ رغم كل مرارة السعودية من مواقف الحليف الاستراتيجى القديم- أمريكا- إلاّ أنها ترفض استشعار خطورة التدخلات الخارجية لتحويل الصراعات المسلحة التى أطاحت باستقرار بعض الدول العربية إلى فرض واقع جديد يقوم على خلق مناطق نفوذ تحت سيطرة الكتل الطائفية على حساب إلغاء الجذور التاريخية والسياسية التى تأسست عليها دول المنطقة العربية. من المؤكد أن دعم أمريكا غير المحدود لدول إقليمية (إيران –تركيا) فى بسط نفوذها العسكرى والسياسى على المنطقة لا يمكن قراءته بعيدا عن خلق كتلة شيعية مقابل أخرى سُنية كواقع جديد يحكم المنطقة العربية.. ولتذهب كل الحلول التى تحفظ لبلاد مثل سوريا، ليبيا، اليمن والعراق جذورها السياسية العربية إلى الجحيم!!.
ثانيا، ثبات المواقف المصرية قام على أسس وقراءة سياسية لعدة حقائق، بعيدا عن التدنى إلى أجواء المساومات الرخيصة التى حاول البعض دسها على طبيعة هذا الموقف. مصر تتبنى حلولا فى إطار عربى بعد سلسلة الفشل الذريع الذى أحدثته التدخلات سواء الخارجية أو الإقليمية منذ غزو العراق عام ٢٠٠٣، وما تبعه من تغول إيرانى، ثم استخدام شعار الحرب على تنظيم داعش لتحويل العراق إلى منطقة صراع مصالح ونفوذ بين تركيا وإيران، كلها دلائل صارخة تتطلب من السعودية مراجعات حول خطورة تبنى حلول ذات صبغة طائفية، سبق لها أن جرت المنطقة إلى كوارث، لذا لم يكن غريبا انحياز مصر إلى الحلول التى تحفظ للمنطقة وحدة وعروبة دولها فى إطار سياسى بدلا من تسليمها إلى تنظيمات إرهابية لن تكون أى دولة بمنأى عن وحشيتها. الأخطر أن الموقف المصرى استشعر الضبابية وراء كل العناوين البراقة التى وضعتها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى على حملاتها ضد داعش، إذ تخلو جميعها من أى خطط معلنة تحمل تصورا سياسيا يعيد الاستقرار إلى سوريا أو ليبيا.. أو حتى فى العراق، بعد انتهاء دور العمليات العسكرية ضد داعش. بالتأكيد السعودية ليست بحاجة إلى تذكيرها بأن الفراغ السياسى الذى تركته أمريكا فى العراق وقوات «الناتو» فى ليبيا أديا إلى التغول الإيرانى ثم داعش فى الأولى، والتنظيمات الإرهابية فى الثانية.
نموذج آخر على «الانتقائية» التى يتسم بها تعامل بعض الدول الأعضاء مع الجامعة، أن الموقف الرسمى لحكومة العراق وهي إحدى الدول المؤسسة للجامعة سبق له التحفظ على قرار تبنته مصر بإنشاء جيش دفاع عربى مشترك، ومع تصاعد وتيرة التصريحات الكلامية بين العراق وتركيا قبل بدء عملية تحرير مدينة الموصل من داعش، طالبت الحكومة العراقية دعم الجامعة فى موقفها الرافض من احتلال القوات التركية معسكر «بعشيقة» قرب الموصل، وهو حق مشروع لا جدال فيه لدولة عربية، بينما فى المقابل غضت الحكومة بصرها عن تصريحات سابقة أكد فيها «ملالى» إيران وقادتها اعتبار العراق امتدادا جغرافيا لإيران!! أو تدنيس ميليشيات إيرانية شوارع العراق بلافتات تتطاول على السعودية بعبارات السب وتهديد السفير السعودى بالقتل علنا أمام الكاميرات!!.
العروبة ليست «سوبر ماركت» نختار من بضاعته ما نريد وقتما نشاء، هى حزمة مواقف، إما أن نقبلها وإما نرفضها، من البديهى أن يتضاءل الأمل فى الجامعة العربية حين يكتفى سفراء الدول الأعضاء بالإدانة والاستنكار داخل اجتماعاتها، والاتجاه نحو التركيز على ربط مصير القضايا العربية بصراعات النفوذ والمصالح بين القوى الدولية والإقليمية.