حين تطغى على الصورة مشاعر الحزن والألم.. تتوارى أحيانا لغة المنطق احتراما للمأساة التى فجرت هذه المشاعر.. فور حدوث مأساة حادث غرق مركب رشيد ومئات الأرواح البريئة التى دفعت حياتها سعيا وراء الحلم الأوروبى.. لم يكن مناسبا استدعاء صوت العقل وسط دموع الأسر التى فقدت أبناءها لمراجعة تداعيات هذه الكارثة، رغم عامل التأخير.. موافقة مجلس النواب الأسبوع الماضى فى أولى جلساته على مشروع القانون المقدم من الحكومة حول الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين شرط التفعيل الحازم للبنود التى ضمت تغليظ العقوبات على مرتكبى هذه الجريمة خطوة مبدئية للتنقيب بعمق أكثر عن جذور الظاهرة.
الشق الاجتماعى يظهر البطالة كأحد الأسباب الرئيسية، رغم كل فرص العمل التى توفرها مشاريع التنمية المختلفة المعلن عنها سواء من الحكومة أو القطاع الخاص، إلا أن خطوط التواصل ما زالت مقطوعة بين جذب الشباب إلى هذه الفرص وإقناعهم بجديتها وبين الحكومة التى يبدو أنها تتحمل وزر تراكم عدم الثقة من جهة المواطن عبر العقود الماضية، غابت خلالها عن المواطن البسيط بوادر الأمل مع توحش طبقة (رجال المال) وغياب (رجال الأعمال) الذين أسهمت جهودهم فى تاريخ صناعة الاقتصاد المصرى وتوفير فرص عمل فتحت آلاف البيوت.. منطقيا لا يُعقل محاسبة حكومة حالية «بأثر رجعى» عن أخطاء حكومات أو سياسات سابقة، فى المقابل من الأجدى اقتران الجانب التشريعى فى مكافحة هذه الجريمة بخطوات أخرى من جانب الحكومة تعيد بناء جسور الثقة بين الشباب المهاجر وحكومته عبر خلق قنوات تواصل تربطه بمنظومة فرص العمل المتوفرة.. تمنحه بادرة أمل من شأنها إزالة مخزون عشرات السنين من التشكك فى مصداقية الحكومات السابقة وقدرتها على استيعاب حاجته إلى العمل.
جرعة الغضب والإحباط قد تبدو مفهومة ومشروعة لمن هم فى مقتبل الحياة، لكن السعى وراء فرص تحقيق الحياة الكريمة دون مراجعة الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية يجعله أقرب إلى التهور والضياع. الرؤية العامة -مثلا- تختلف بين الهجرة إلى دول الخليج -رغم كل الأزمات التى تثار أحيانا- خصوصا أنها أتاحت فرص الادخار وتحقيق حياة كريمة لأغلب المهاجرين وبين اقتحام بحار الموت.. الشاب المهاجر -للأسف- يلقى بنفسه دون معرفة بالحقائق التى سيصطدم بها.. أمريكا وأوروبا لم تصنعا نموذجى د. مجدى يعقوب أو د. أحمد زويل وغيرهما.. هى التقطت النبوغ العلمى وهيأت لهم الأجواء المناسبة لدعم هذا النبوغ، بالتالى فرص العمل أمام الشريحة العامة من المهاجرين لن تتجاوز سقف المهن الهامشية البسيطة التى يعزف أغلب الشباب عن قبولها فى مصر بالإضافة إلى أن هواجس التحفز تجاه المهاجر العربى ما زالت تشغل جانبا كبيرا من العقلية الأوروبية مع تعرض العديد من الثوابت التقليدية التى شكلت هذه العقلية تجاه قبول «الآخر» إلى عدة مراجعات خلال الأعوام الماضية وفقا لما لمسته خلال زياراتى لهذه الدول.. بل إن الهجرة إلى أمريكا التى يسعى للحصول عليها آلاف الأسر من سوريا والعراق تربط مبلغ الإعانة البسيط الذى يقدم للأسرة بعد حصولها على الموافقة ودخولها أمريكا بقبول أفراد الأسرة العمل الذى توفره لهم الجهة المعنية فى الحكومة مهما كانت طبيعته، علما أن هذا الشرط لا يستثنى الحاصلين على مؤهلات جامعية.. هذه حال الهجرة القانونية التى تتم فى إطار اتفاقيات إدارة شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.. وهو «ترف» لا يحظى به المهاجرين غير الشرعيين. الوهم الزائف عن حصول المهاجر على أجور جيدة من صاحب العمل فى أمريكا أو أوروبا مقابل جهد بسيط فى العمل هى جريمة أخرى يرتكبها سماسرة الموت للمتاجرة بآلام البسطاء، الحقيقة إن صاحب أى عمل حتى لو «كشك» لبيع الحلوى والسجائر لن يمنح دولارا واحدا إلا إذا حصل على عشرة أضعاف المبلغ من الجهد والعمل فى المقابل.. هى قاعدة اقتصادية تعم على الجميع بدون استثناء.. إذن كما تتحمل الحكومة مسئوليتها فى ظاهرة «هجرة الموت»، على المهاجر أن يراجع قدرته على تحمل قسوة ظروف العمل ومدى تقبله لها بنفس الدرجة سواء داخل أو خارج بلده. الحسابات الاقتصادية تختلف تماما بين العمل فى دول الخليج أو أوروبا، رغم ظروف الغلاء العالمى فإن الاختيار الأول ما زال يحمل فرصا أكبر للادخار، أما أوروبا التى وصل الغلاء فى دولها إلى حد فاحش بعد توحيد العملة، مع الاعتبار أن ثمن السلعة لا يحسب وفق سعر التحويل إنما بناء على القيمة الشرائية.. الجنيه المصرى مثلا ما زال يوفر رغيفين من الخبز، بينما اليورو بالكاد يكفى لشراء رغيف.. ثمن كوب الشاى فى أبسط الأماكن لن يقل عن ٦ يورو مقابل ثلاثة جنيهات فى المقاهى الشعبية.. وهكذا تتوالى أسعار متطلبات الحياة اليومية.. المبلغ البسيط الذى سيحصل عليه أى عامل سواء فى مصر أو أوروبا ما زال اقتصاديا فى صالح الاختيار الأول رغم الغلاء الذى طال عدة سلع أساسية.
أخيرا.. هى ليست دعوة للتشاؤم أو غلق أبواب الرزق.. فقط حقائق على الشاب المهاجر مراجعتها قبل أن يصدم عند الوصول ولا يجد أنهار الأمل المتدفقة أو قصور الأثرياء فى انتظاره.