ذات مرة، ذهبت إلى المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية، للحصول على بيانات عن الظواهر السلبية فى المجتمع، مثل الثأر وتجارة السلاح فى الصعيد، بينما كنت أقلب فى صفحات سجل أرشيف المكتبة عن «كود» البحوث التى أجريت بشأن الغرض الذى ذهبت لأجله، توقفت كثيرا أمام إحدى الدراسات المعنية بقياس التصاعد والتراجع فى نسب الجريمة، خلال الفترات الزمنية المماثلة من عام لآخر، لفت نظرى انخفاض نسبتها فى شهر أكتوبر عام ١٩٧٣، مقارنة بنفس الشهر فى السنة السابقة، بل لا جرائم بالأساس، بمعنى أكثر دقة، لا توجد بيانات أو محاضر عن الجرائم المتنوعة لمدة ١٨ يومًا، هى الفترة من ٦ أكتوبر وحتى يوم ٢٣ أكتوبر.
تساءلت عن السبب.. كيف سقطت تلك الفترة الزمنية من السجلات؟.. أم إنها لم تكن مدرجة بالأساس أمام الباحثين؟.. هل أخفت وزارة الداخلية عمدا بيانات الجرائم المعتادة «مشاجرات ـ سرقة ـ قتل.. إلخ»؟.. حملت كل ما كان يدور فى رأسى من تساؤلات، ألقيت بها أمام الدكتور أحمد المجدوب ـ رحمه الله ـ وكان واحدا من أشهر الباحثين فى العلوم الاجتماعية وتحليل الظواهر الجنائية، إجابته أثارت دهشتى، وحفزتنى على التأمل، قال كلمة واحدة، أغلق بها باب النقاش فى كل التساؤلات المتنوعة؟، إنها «روح أكتوبر» ظل يرددها «روح أكتوبر».
الكلمة البسيطة فى معناها، العميقة فى جوهرها، تحوى دلالات التلاحم المجتمعى المتوارث فى الشخصية المصرية عبر الأزمنة، هذه الروح تجسد مفهوم التغاضى عن الصغائر والأمور الشخصية، تفاعلا مع هدف أكبر وأسمى، هو الالتفاف حول الوطن فى لحظة تاريخية فارقة، إجابة المجدوب أيقظت ذاكرتى وحفزتنى على استدعاء مشاهد كنت أظنها هامشية، فغياب الجريمة وتلاشى المشاحنات من الأشياء المستحيلة فى بعض المجتمعات وفق ظنى، خاصة أننى من أبناء الريف، ولدى دراية كاملة بالمنازعات اليومية التى لا تنقطع، بين الجيران فى الحقول، سواء على أسبقية الرى أو على فصل الحدود بينهم أو بسبب لعب الأطفال، إلى جانب الصراعات الثأرية، خاصة فى المجتمعات المغلقة، وغيرها من الوقائع التى تحدث، ليس فى بلدتى فقط، بل تحدث يوميا على اتساع الوطن، ويتم التصالح العرفى فيها، أو تدوينها فى دفاتر «العموديات بالقرى والنجوع» أو نقاط ومراكز وأقسام الشرطة على مستوى الجمهورية تساءلت ساخرا.. هل أعلن اللصوص توبتهم فى تلك الفترة؟.. وما علاقة محترفى الإجرام بـ«روح أكتوبر»؟، الإجابة ترويها المشاهد أثناء الحرب، وقتها التف المصريون على اختلاف شرائحهم الاجتماعية حول قضية الكرامة، الثأر لدماء الشهداء واسترداد الأرض من الغاصب ودحر عدو راح يصدر لنا الخوف والرعب عبر آلة إعلامية جبارة، فالعبور بدل الحال، كسر جيشنا العظيم بجنوده البواسل حالة الملل والرتابة وبلوغ مرحلة اليأس، لذا تفاعل الجميع مع المعركة بكل جوارحهم، لم تختف السلع من الأسواق، لم ينشط المجرمون ويتوسعون فى ارتكاب الجرائم، لم نر تحريضا على التخريب لإرباك الجبهة الداخلية.
كانت مصر كلها من شمالها لجنوبها تهلل فرحا مع كل بيان جديد، كل مصرى كان مزهوا ممتلئا بالفخر، لما حققه جيشه العظيم بقادته وجنوده من نصر حطم المقولات الرائجة وقتها عن أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.
تذكرت تلك الأيام، كنت وقتها على مشارف سنوات الصبا، وأدرك جيدا ما كان يدور حولى من أحداث، لا أزال أتذكرها ولا أزال أذكرها، بقدر الحنين لأحلى سنوات عمرى، عشت مع بسطاء، أحلامهم الستر وتعليم أبنائهم بعد أن فتحت أمامهم ثورة يوليو، أبواب الأمل فى حياة أفضل، رأيتهم ينتقلون من بيوتهم الفقيرة إلى أماكن تجمعات أهالى قريتى بجوار محال البقالة، أو الغرز الصغيرة، حيث لم تكن هناك مقاهى مثل زماننا هذا، للجلوس أو الوقوف بجوار أقرب مذياع كى ينصتون بكل جوارحهم للأغانى الوطنية التى تتخلل البيانات الصادرة من القيادة العامة للقوات المسلحة، يهتفون «الله أكبر» عند سماع إسقاط طائرات للعدو، أو تقدم قواتنا المسلحة فى عمق سيناء، أو نجاحها فى ضرب أحد المواقع الحصينة للعدو، أهل بلدتى شأنهم شأن بقية المصريين، قلوبهم تتعلق بأمل النصر، والاحتفال بعودة شباب يافع حاملا على أكتافه كبرياء وعزة الوطن.
هؤلاء البسطاء الذين أتحدث عنهم، لم يكن بينهم خبير فى الشأن الاستراتيجى أو متخصص فى تكتيكات الحرب، ليس لديهم أدنى دراية بمخططات أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، وأنواع التسليح أو خطة الخداع الاستراتيجى، أو مواقف قطبى العالم وقتها «الاتحاد السوفيى والولايات المتحدة الأمريكية» فقط يريدون الثأر وتحرير سيناء.
فهى بالنسبة لهم ليست مجرد جزء من المساحة الجغرافية لمصر، أو بقعة حدودية ملتهبة بالأحداث والمعارك على مر التاريخ، لكنها رمز الانتماء للوطن بما فيه من ميراث أزلى، انتصارات وهزائم.. بطولات وانكسارات. فهذه البقعة تحتل ركنا أساسيا فى قلوب المصريين.. لما لها من مكانة عاطفية خاصة.. فعلى أرضها سالت دماء الشهداء من مختلف شرائح أبناء الشعب.. الغنى والفقير.. المتعلم والأمى.. المسلم والمسيحى.. كما تجسدت فيها عبر التاريخ وحدة المصريين فى الدفاع عن الوطن فى كل حروب التصدى للغزاة القادمين من البوابة الشرقية.
الحديث عن روح أكتوبر، يسيطر على تفكيرى كلما سافرت إلى بلدتى باعتبارها نموذجا للواقع المصرى بكل إشكالياته الاجتماعية والاقتصادية، أجدنى بتلقائية، أقارن بين الماضى «أكتوبر» والحاضر، لكن فى كل مرة تنتهى المقارنة بالحزن على تبدل الأحوال.
غابت البهجة عن الدروب والأذقة فى بلدتى كما غابت عن كل المناطق الريفية والشعبية فى بر مصر، انقرضت مثل كل شىء جميل، «هرجة» النساء، انتظارا لأزواجهن، ليسمعن حكايات البطولات، ويسألن عن أخبار ابن فلان الجندى الذى أمضى ست سنوات على الجبهة.. وتروى كل منهن للأخرى ما تسمعه من زوجها عن الملائكة التى تحارب، وقصص تفجر عيون المياه من الأرض ليرتوى جنودنا من المياه العذبة الطاهرة، حكايات اختلطت فيها الأمنيات الدفينة بالأساطير؟
لم يعد البسطاء كما كانوا، غابت عنهم روح أكتوبر، الناس لم تعد هى الناس «بتاعة» زمان، نعم كان هناك فقر، جهل، لكن كانت هناك مروءة شهامة، يعرفون العيب يفرحون لأفراح بعضهم، ويتشاطرون الحزن أيضا.
تغير الناس، حتى الابتسامة فى وجه الأقارب والجيران «اللى» هى «صدقة»، لم يعد أحد يتصدق بها، لم يعد لها مكان فى النفوس التى اعتلت، حل بدلا منها الحقد، وإدمان تتبع سيرة الآخرين، ماذا اشتروا، وماذا باعوا، وما سر العلاقة بين فلان وعلان، إنها آفة سرت فى النفوس والبيوت كالنار فى الهشيم، اندثرت القيم النبيلة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، تلاشت مفاهيم الأخلاق، لم يعد هناك احترام من الصغير للكبير، أوخوف الكبير على الصغير، صعد الفهلوية وعديمو الموهبة، فصاروا عنوانا لزمن معيوب.