كان الدستور الأمريكى الذي صدر في صيف ١٧٨٧ هو الإطار الذي مكن لممثلى الشعب تحديد المصالح القومية والسياسات والبرامج اللازمة لتحقيق هذه المصالح، وكان واضعو الدستور يدركون أنهم يصيغون قواعد جديدة تماما. فخياراتهم لم تكن تتعلق بهيكل الحكومة وتقسيم السلطة داخل هذه الحكومة فحسب، بل كان عليهم توزيع السلطة بين الحكومة القومية الجديدة والولايات التي أعطت لهم سلطة إنشاء هذه الحكومة، كما كان عليهم تحديد دور الحكومة وحقوقها وسلطاتها وحقوق الشعب وواجباته هذه التجربة كانت إذا حالة خاصة، حيث قام الشعب بتحديد سلطة حكومته بدلا من قيام الحكام بإعطاء الحقوق للشعب، وأصبح الشعب الأمريكى الذي يطلق عليه مجازا هذا التعريف بالرغم من أنه عبارة عن مجموعة متنافرة من البشر من أعراق وجنسيات وألوان مختلفة هاجرت من موطنها الأصلى من دول مختلفة إلى بقعة من الأرض اكتشفت حديثا بالصدفة، أطلق عليها دولة أمريكا، يمارس فيها المهاجر حقوقه التي تضمنها الدستور بعد أن تشكلت الدولة الأمريكية وانصهرت هذه الجماعات المتنافرة في بوتقة واحدة لتخرج ما سمى بالمجتمع الأمريكى، الذي يختار أقوى مسئول في السلطة التنفيذية في أي نوع من الحكومات الممثلة التي تميزت بالاستمرار عبر فترة طويلة من الزمن.
وتعد سلامة العملية السياسية وقدرة المجتمع على التأكد من أن أفضل عناصره هي التي يتم ترشيحها للرئاسة والحكم الذي يقوم به الناخب بمثابة دفاع رئيسى عن بقائه والدعائم الأساسية لاستمرار بقاء الدولة، ولذلك فإن انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تجرى في الثامن من نوفمبر أهم حدث يتكرر كل أربع سنوات، ويحظى بالاهتمام السياسي والإعلامي الواسع النطاق، ليس فقط على المستوى المحلى الأمريكى ولكن على المستوى العالمى. ويرجع ذلك لسببين أساسيين: الأول، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد بالفعل وبغير مبالغة أهم عوامل التأثير في الأحداث العالمية، وواحدة من ركائز النظام الدولى، بل هي القوة العظمى الأولى في العالم، والثانى، هو قوة وحيوية الإعلام الأمريكى الذي أصبح شريكا أساسيا في المعارك الانتخابية بمثل ما هو شريك في كل المعارك التي تقودها الولايات المتحدة الخارجية والداخلية.
ومن هنا، يكون اهتمامنا ضروريا من خلال تناولنا لهذا الحدث- أي الانتخابات الرئاسية الأمريكية- ومحاولة الاقتراب منه والكشف عن بعض العوامل التي تسهم في التأثير على نتائجه وفى مقدمتها، شخصية المرشح وسيرته الذاتية وتاريخه العائلى والبيئى والأخلاقى ومدى ما يتمتع به من قبول جماهيرى من عدمه. ومن العوامل المهمة جدا الوضع الاقتصادى والاجتماعى والشارع السياسي والمزاج النفسى للشارع الأمريكى ودور جماعات المصالح الأمريكية وجماعات الضغط (اللوبى) التي تؤثر في العملية الانتخابية تأثيرا كبيرا، وفى مقدمة هذه الجماعات منظمة (إيباك) التي تعتبر أخطر وأقوى منظمات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة.
ولذلك تأتى أهمية دراسة وتحليل وضع أمريكا من الداخل أثناء هذه المعركة الانتخابية الساخنة التي أطلقت عليها معركة الجنس والخبل النفسى ومعركة الوحل والطين، نظرا لكثرة الفضائح والاتهامات المتبادلة بين المرشحين الأساسيين لمنصب الرئيس الأمريكى: هيلارى كلينتون – ذات السبعين ربيعا أو أقل قليلا، وبالرغم من ذلك فهى تتمتع بجاذبية وبريق خاص، ولها خبرة كبيرة في الحياه السياسية، فكانت حاكمة ولاية نيويورك، ووزيرة الخارجية الأمريكية في إدارة الرئيس أوباما، كما كانت سيدة أمريكا الأولى إبان حكم زوجها الرئيس بيل كلينتون، كما كانت من أبرز ١٠٠ محام في الولايات المتحدة، ودونالد ترامب مرشح الحزب الجمهورى وهو من كبار رجال الأعمال وليس له أي خلفية سياسية، ولم يمارس أي عمل له علاقة بالشأن العام، وهو مزاجى الشخصية، ويتهمه الديمقراطيون بأنه يعانى من أمراض نفسية أثرت في اضطراب شخصيته.
وخلال المناظرة الأولى التي تمت بين المرشحين اتهم دونالد ترامب الحزب الديمقراطى والرئيس أوباما بأنه خرب أمريكا، وكان سببا في وجود الإرهاب وإشعال النار والحروب في المنطقة العربية التي توجد بها المصالح الأمريكية الإستراتيجية كما لها خلفاء وأصدقاء في المنطقة. وكانت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية آنذاك وراء كل هذه المصائب والنكبات ونشر الفوضى والخراب في المنطقة العربية. كما اتهم ترامب كلينتون بأنها متحررة أكثر من اللازم وليبرالية لا تتمتع بأى قيم. وراحت أجهزة الإعلام المؤيدة لحملة ترامب تكشف لأول مرة عن سر كبير في حياة هيلارى كلينتون وهى قصة حب رومانسية عاشتها مع مستشار البيت الأبيض (فينيس فوستر) الذي انتحر في ظروف غامضة. وأن جميع العاملين في البيت الأبيض وعددا من الأصدقاء والمقربين كانوا على علم بتلك العلاقة الغرامية «مجلة إنكوايرز» الأمريكية التي تناولت الموضوع آنذاك.. الغريب أن زوجها الرئيس بيل كلينتون سامحها مثلما سامحته على انحرافاته الجنسية العديدة، وكانت آخرها ممارسة الجنس مع مونيكا في البيت الأبيض.
كما أطلقت أبواق الإعلام التابع لترامب أن هيلارى كلينتون شاذة جنسيا، وأن لها علاقة خاصة حميمة مع صديقة لها وأنهما منذ عدة سنوات قد اعتادتا الاختلاء بأنفسهما في أحد الفنادق بكاليفورنيا وتقضيان فترة ما بعد الظهر معا في حجرة واحدة كما كان لها علاقة خاصة أيضا مع إحدى موظفات البيت الأبيض.
في حين أن هيلارى كلينتون ركزت في هجومها على ترامب أثناء المناظرة بأنه ليس له خلفية سياسية أو خبرة في العلاقات الدولية ولا يفقه أي شىء في هذا المجال. وتساءلت كيف له أن يدير الدولة العظمى في العالم وهو بهذه الحالة المتدنية إلى جانب أن ترامب متهم بقضية مخلة بالشرف والأمانة وتمنعه من الترشح لهذا المنصب وهى التهرب الضريبى. واتهم الديمقراطيون ترامب بأنه مريض نفسيا ومخبول ومتقلب المزاج نرجسى الطبع دموى النزعة متطرف الفكر والعقيدة عنصرى، فهو يهاجم العرب والأديان والسود، ويريد أن يطرد كل المواطنين غير الأمريكيين الأصل من الأراضى الأمريكية، ووعد بأنه حال انتخابه سيستخدم القوة المفرطة ضد السود في حالة قيامهم بأى عمل من أعمال الشغب والفوضى في الشارع الأمريكى كما يحدث في إدارة أوباما. وهكذا لن تكون أمريكا جنة الله في الأرض كما يراها البعض، أو بلد الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمبادئ، بل هي غابة الرأسمالية المستغلة والأسرار والفضائح، بلد المال فيها يتكلم، والقوى فيها يأكل الضعيف، والأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، وإذا كان ترامب يقول إننى ملياردير وهذا هو دينى، وأن هيلارى تقول إننى ليبرالية وأدافع عن حقوق الشذوذ الجنسى، فإننى أقول لهما لا فلاحة لبلد لا صراط له ولا بقاء لبلد إذا أخلاقه ضاعت. وتأسيسا على ذلك، فإن معركة الرئاسة الأمريكية ستكون هذه المرة أعنف وأشرس وأخطر معركة تشهدها الولايات المتحدة، وتمثل في رأينا منعطفا له حساباته المهمة والخطيرة في السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، ومستقبل العلاقات العربية الأمريكية، ومستقبل القضية الفلسطينية المركزية للعرب، نظرا لتطرف وجهات النظر لكلا المرشحين الأساسيين لمنصب الرئيس الأمريكى، وعلى العموم، فإن العالم سيكون أمام خيارين كلاهما سيئ ومر وضد مصلحة الدول النامية وتحديدا الدول العربية، وأيضا ضد السلم والأمن الدوليين، هيلارى كلينتون المرشحة الديمقراطية مهندسة المصائب والنكبات في الوطن العربى التي تعلن انحيازها السافر لإسرائيل والمتهمة بالانحطاط الأخلاقى والشذوذ الجنسى. ودونالد ترامب المتهم بالتهرب الضريبى ومحاربة الطبقات العاملة واستغلالها واتهامه بالخبل النفسى، إلى جانب انحيازه السافر أيضا لإسرائيل… هكذا يشهد العالم في انتخابات الرئاسة الأمريكية التنافس بين الجنس والخبل النفسى.
والله المنقذ والمستعان.