التاريخ القديم والحديث يظهران انكماش الدول العظمى ينجم عن قصور طاقاتها وإمكاناتها عن مجاراة مطالب دورها الدولى فى تقديم المساندة السياسية والمساعدات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية للدول الصديقة والحليفة، وعجز اقتصادها وإنتاجها عن تلبية حاجات آلاتها العسكرية وهيمنتها السياسية، لأن الدور الدولى يتطلب تبعات ومسئوليات تجاه مساعدة المجتمع الآخر الأقل غنى ولكنه أكثر قوة وتأثيراً فى العلاقات الدولية، حدث ذلك مثلاً فى بريطانيا وفرنسا وهما خارجتان منتصرتان من حربين دوليتين. وقد انعكس تخليهما عن مستعمراتهما وراء البحار بصدمة نفسية لكن لم تؤد إلى انهيار داخلى، ذلك أن هناك قدراً من الانسجام والتماسك فى تركبيهما الاجتماعي.
غير أن الدولة العظمى -وأقصد الاتحاد السوفيتى- واجهت عجز نظامها الاقتصادى عن التجاوب مع دورها الدولى باختلاف خطير فى بنيتها الهيكلية الفيدرالية وذلك نتيجة غليان الشعوب والأعراق الداخلية قسراً أو رضاً فى سروالها الواسع، والإمبراطورية الرومانية لم يعد بإمكانها استيعاب هذا الموج المتلاطم من الشعوب والأقوام فى أحشائها وحولها، وانهارت الدولة الإسلامية العباسية لأنها لم تستطع تطوير بنى اقتصادية تنسجم مع حاجات دورها الدولى وتلبى تطلعات الشعوب والأقوام التى تحكمها.
وألحقت اليابان الدولة الصناعية الحديثة هزيمة مهينة الإمبراطورية القيصرية الروسية العاجزة عن مجاراة الدول الأوروبية الغربية فى تقنيتها الصناعية، وجاءت الشيوعية لتنقذ الإمبراطورية من الانهيار، ثم ما لبث هذا الثوب الشيوعى على مدى الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضى أن اهترأ، وقد عجز الاقتصاد السوفيتى عن خدمة أعباء الدور العالمى بسبب الإنفاق العسكرى على سباق التسلح مع الرأسماليات الغربية، وكف عن تلبية حاجات المظهر الخارجى والدعائى للدولة العظمى كالمنافسة فى الفضاء، وتقديم المساندة السياسية والمساعدات المادية والاقتصادية للدول الصديقة والحليفة.
وتجلى الإخفاق فى انعدام رغبة زعماء الكرملين فى تطوير البنية الهيكلية للاقتصاد السوفيتى، بحيث يلبى من جهة المطالب اليومية لمجتمعات تطور وعيها وتطالب برفاهية أكبر وبتحسين أوضاعها المعيشية، والانتقال من جهة ثانية من عصر الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الخفيفة والاستهلاكية ودخول عصر ما بعد الصناعة، عصر الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والمعرفية، وهكذا ظل اقتصاد الدولة الكبيرة مدرجاً فى خانة «اقتصاد الدول شبه المتطورة اقتصاديا وصناعياً فى العالم الثالث ككوريا الجنوبية والبرازيل».
كان هذا الوضع المتدنى والمخزى فى عهد الرئيس السوفيتى جورباتشوف الذى وجد مع عجائز الكرملين أن محاولة تطوير الاقتصاد المركزى صعبة ومستحيلة إذا لم يتم تطوير النظام السياسى، لكن الانفتاح أدى إلى انهيار الستار العقائدى، وظهر واضحاً أن عملية الصهر قد خففت من صراع الطبقات لكن لم تذوب النزعات والحساسيات الوطنية، فراحت الهويات القومية والدينية تعبر عن نفسها بالرغبة الجامحة فى التحرر والاستقلال بدلاً من الاكتفاء والتقيد بالعملية الديمقراطية، تنازل الرئيس السوفيتى جورباتشوف عن عقيدة النظام ثم تنازل عن الاقتصاد الماركسى المخطط والموجه، ثم عن حزب النظام، كل ذلك فى سبيل المحافظة على فيدرالية الدولة الكبرى، لكن محاولة تهوية النظام جوبهت بالرفض، انقلب عليه الشيوعيون الراديكاليون، وحلف المؤسسة الصناعية العسكرية، وانقلبت عليه الجمهوريات، واكتشف جورباتشوف بعد خروجه من الاعتقال أن العالم قد تغير تماماً لا أحد يريده، الجمهوريات لم تعد تقبل حتى برابطة سياسية رمزية بما فى ذلك الجمهوريات السلافية الشقيقة للروس كأوكرانيا وروسيا البيضاء.
وحتى الرئيس يلتسين الذى أنقذ جورباتشوف (١٩٩١) نجده يقوم بانقلاب ضده وينتزع سلطته وصلاحياته وتم الطلاق السلمى بين روسيا وكل دولة وجمهورية، بحيث إن الرئيس السوفيتى لم يبق له من السلطة والصلاحية إلا الرمز وانتهى عصر جورباتشوف الذى ارتمى فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية وانخدع بمبادئها الهشة ووعودها المعسولة فى تقديم المساعدات غير المحدودة، والتى تم تحديد قيمة الدفعة الأولى بنحو ١٠٠ مليار دولار حتى يخرج الاتحاد السوفيتى من أزمته الاقتصادية الحادة، وكانت هذه المساعدات نظير سرعة تحويل الاقتصاد الروسى المركزى إلى الاقتصاد الرأسمالى الحر والذى يسمى باقتصاديات السوق إلى جانب احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
المهم سقطت الدولة وانتهى الاتحاد السوفيتى العظيم الذى كان له دور دولى محترم وشريف فى تقديم المساندة السياسية والمادية الاقتصادية للدول الصديقة والحليفة التى ارتبطت به ارتباطاً قوياً، الأمر الذى أزعج الولايات المتحدة فعملوا على انهيار هذا العملاق وهزيمة الشيوعية بأى وسيلة، وتحقق لهم هذا الأمر، ولعل السبب الرئيسى فى انهيار الاتحاد السوفيتى يرجع إلى الاتساق الروسى الأمريكى فى كل القضايا السياسية الداخلية والخارجية، وإن كان الروس قطعوا خطوات كبيرة فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة من الأعباء والتحديات، حيث يبدأ التأثير الأمريكى على السياسة الخارجية للسوفيت حتى بالنسبة لقضايا التحرر والعدالة والشرعية الدولية، فقد جعلت أمريكا جورباتشوف يوافق على هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل بالرغم من أن هذه القضية تسىء إلى العلاقات العربية السوفيتية وتضعف من الدور السوفيتى فى النظام العالمى، خاصة أن موقفه تجاه القضية ارتبط دوماً بالموقف من المسألة اليهودية، وكانت صفقة سوفيتية خاسرة ارتبط فيها اسم جورباتشوف بمرحلة سيئة من مراحل تطور العلاقات العربية السوفيتية.
وكان من الطبيعى بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وانفصال الجمهوريات الـ ١٥ التى يتكون منها أن ترث جمهورية روسيا إرث الاتحاد السوفيتى باعتبارها أكبر الجمهوريات السوفيتية من حيث تعداد السكان نحو (١٩٠ مليون نسمة) كما أنها تعتبر أكبر قوة نووية وعسكرية وعلمية وتكنولوجية لا تنافسها سوى الولايات المتحدة الأمريكية، كما يتركز بها أعظم الصناعات العسكرية المتطورة ويوجد بها صفوة من العلماء فى مجالات الفضاء والصواريخ والغواصات النووية والفيزياء والكيمياء والطب إلى غير ذلك، كما تتمتع جمهورية روسيا وعاصمتها موسكو بأكبر احتياطى من النفط وهى متحكمة فى مد الدول الأوروبية بما تحتاجه من هذه السلعة الاستراتيجية الهامة، وفى الوقت نفسه تعتبر روسيا أكبر مستودع للقمح والحبوب والغلال.
المهم بعد هذه الأحداث السريعة جاء الرئيس بوتين على رأس السلطة لجمهورية روسيا الذى نهض بالبلاد نهضة كبيرة جداً وأعاد للجمهورية الروسية دورها الإقليمى والوطنى وهيبة وقوة الدولة العظمى، والأهم من ذلك أعاد لروسيا القدرة على مجاراة مطالب دورها الدولى فى تقديم المساندة السياسية والمساعدات المادية والاقتصادية للدول الحليفة والصديقة.
وفى هذا الإطار يتطلع الشعب المصرى الذى تربطه بالمجتمع الروسى علاقات قديمة إلى تنمية هذه العلاقات المصرية الروسية بصورة أكبر وأسرع وأعمق خصوصاً أن مصر أهم حليف استراتيجى لروسيا ويوجد بينهما علاقات ومصالح وصداقات قوية، فمصر هى البلد الذى يتمتع بالمياه الدافئة والموقع الاستراتيجى العبقرى وهى مفترق القارات وملتقى الحضارات ويوجد بها الآن فرص استثمار أكاد أجزم أنها لا يوجد مثيل لها فى العالم، كما تتربع على عرش الآثار والسياحة فى العالم كله فيوجد بها نحو ثلثا آثار العالم والمدن الشاطئية الحالمة ومناطق الغطس والشعب المرجانية النادرة والمناخ الرائع ورحابة الشعب المصرى الطيب. مصر عائدة بقوة رغم أنف الحاقدين والكارهين والاستعماريين والخونة والجماعات الإرهابية.