فى سياق الأحداث المتلاحقة التى استحوذت على الاهتمام العالمى خلال الأسابيع الماضية، أثار تقرير لجنة التحقيق البريطانية عن حرب العراق - تقرير (تشيلكوت) - ردود فعل صاخبة بين وسائل الإعلام فى العالم، رغم كونه لا يمثل الفضيحة الأولى ضمن سلسلة الأكاذيب التى توثِّق أكبر عملية خداع معاصرة تعرض لها الرأى العام فى أمريكا ودول الغرب.
أواخر عام ٢٠٠٢ طلبت وكالة الاستخبارات الأمريكية من إحدى موظفاتها فى دائرة أسلحة الدمار الشامل (فاليرى بلايم) الاستعانة بزوجها الدبلوماسى المعروف (جوزيف ويلسون) الذى ربطته صداقات متعددة ومتشعبة مع أهم الساسة والمسئولين فى دول إفريقيا بحكم منصبه سفيرًا لأمريكا فى دولة النيجر، وكلفته بالسفر إلى إفريقيا للتأكد من مصادر معلومات الوكالة عن حقيقة شراء العراق (الكعكة الصفراء) وهو الاسم الذى أطلق على صفقة اليورانيوم التى زعم أن صدام حسين اتفق عليها مع إحدى هذه الدول.
إثر عودة ويلسون من إفريقيا كتب مقالًا مهمًا فى جريدة (نيويورك تايمز) ينفى هذه المزاعم بشكل قاطع. ردًا على إعلان هذه الحقائق قررت المجموعة المكلفة داخل البيت الأبيض بإعداد المسرح العالمى للغزو بذريعة وجود أسلحة دمار شامل تدمير هذه الموظفة وزوجها عن طريق الإيعاز إلى أحد أهم الكتاب الصحفيين (روبرت نوفاك) لكشف شخصية الموظفة علنًا، خلافًا لقوانين العمل فى الوكالة.. فضيحة أطلق عليها الإعلام الأمريكى آنذاك (بلايم - جيت) نسبة إلى فضيحة (ووتر - جيت) التى أطاحت بالرئيس الأمريكى نيكسون. على إثر الإعلان عن الفضيحة، استدعيت بلايم لتقديم شهادتها أمام لجنة فى الكونجرس وصدرت بالفعل إدانة على بعض المتورطين من موظفى البيت الأبيض.. رغم ذلك خاضت أمريكا مغامراتها السياسية والعسكرية فى المنطقة منذ ذلك التاريخ.
مجموعة الدلائل الموثقة التى تفند أكاذيب ساذجة ساقها قادة دول (ديمقراطية)! لتبرير نزواتهم طُرِحت خلال مشاركاتى على قنوات التليفزيون المصرى فى عدة نقاشات حول تقرير (تشيلكوت). المؤكد أن التغطية الإعلامية التى قدمتها قنوات ماسبيرو حول التقرير كانت أكثر مهنية ودقة من القنوات الفضائية الخاصة التى حوّل بعضها القضية إلى مناسبة للهجوم على شخصيات، بينما تجاهلت جميعها وجهة نظر الطرف الأساسى فى التقرير - العراق - بل عجزت حتى عن تقديم صورة واقعية للمشاهد المصرى عن ردود أفعال الشارع العراقى، واكتفت «دكاكينها المسائية» بعقد جلسات الحوار النظرى التى دارت فى إطار أبعد ما يكون عن حقيقة ما يحدث فى العراق، بينما نجحت قنوات ماسبيرو فى إعطاء المشاهد صورة شاملة عن تقرير (تشيلكوت) وتداعياته عبر التواصل مع الجانب العراقى المعنى أساسًا بهذا التقرير، فى مقابل المستوى المهنى المتدنى لتغطية القنوات الفضائية الخاصة. محاولة فهم التغييرات الصادمة التى طرأت على ثوابت عديدة طالما شكلت قناعات راسخة بين المجتمع الأمريكى والغربى، مثل تصاعد شعبية أحزاب اليمين المتطرف.. نتيجة الاستفتاء البريطانى التى أسفرت عن خروجه من الاتحاد الأوروبى.. الصراعات العنصرية التى هزت أمريكا مؤخرًا.. كل هذه القراءات لا يمكن فهمها بمعزل عن مغامرات تدخل هذه الدول عسكريًا فى المنطقة والتى مهدت لها أحداث ١١ سبتمبر ٢٠١١. عبر التاريخ، حظت الحكومات فى أمريكا وأوروبا - أيًا كان الحزب الذى تمثله - بعناصر الثقة المطلقة والتقدير من شعوبها.. هذا الحائط الصلب الذى أقامت عليه هذه الدول ثوابتها السياسية لم يسلم من شروخ الأكاذيب والخداع على مدى سنين طويلة أمام حقائق ما زالت تتكشف علنًا وتزيد من مرارة التشكيك بين الشعوب حول مدى استحقاق الحكومات المختلفة الثقة المطلقة التى منحتها لها هذه الشعوب.
كذلك لم تكن دوائر صنع القرار ومراكز البحوث والدراسات فى هذه الدول بحاجة إلى كل «دراساتها المستقبلية»! كى تكتشف النتائج الكارثية لخطط تغيير الأنظمة القائمة على أساس عنصرى أو طائفى، أو أن خلق «مواءمات» مع تيارات دينية - سواء سنية أو شيعية - سيدعم حربها على تنظيمات الإرهاب المتطرف، بينما كل حسابات المنطق تؤكد أن تداعيات مثل هذه الخطط تدعم الإرهاب وتغذيه لأن الفصل بين الجماعات الدينية الطامعة فى السيطرة السياسية وهذه التنظيمات ليس سوى وهم تحاول أمريكا عبثًا تسويقه إلى العالم. «وحش» العنصرية والطائفية الذى احتضنته أمريكا وبريطانيا منذ غزو العراق، يطرق الآن أبواب هذه الدول بعدما ظنت أن حدودها البعيدة ستجعلها بمأمن من تسلله إليها.. ولا تختلف ملامحه كثيرا عن «وحش» الإرهاب الذى خلقته فى أفغانستان ثم تمرد ليضرب أهم مؤسساتها الحكومية.