كنت طرفا في السجال الدائر الآن حول أزمة الصحفيين مع وزارة الداخلية، ولا أنكر انحيازى المطلق في دعم التوجهات الرامية للحفاظ على شرف المهنة، وكرامة أعضائها، وهيبة مؤسستها، لكن في الوقت نفسه، لا أستطيع غض البصر عن حجم العبث الذي أحاط بالمشهد الصاخب، والسعى غير المسئول لدفع الأمور نحو الصدام بين مؤسستين مهمتين «نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية»، لذا أقر واعترف بأن ما جرى، لم يكن موضوعيا بالمرة، لأنه يفتقد لصوت العقل وغياب الحس السياسي من طرفى الأزمة، التي ما كان لها أن تصل إلى هذا الحد من التصعيد المتبادل، أؤكد مرة أخرى «التصعيد المتبادل»، الجميع تورط بدون حساب للعواقب، وبدون دراية بأن الخاسر الوحيد من الصدام حال الاستمرار في تصعيده، هي الدولة المصرية.
القضية ببساطة شديدة جدا، هناك أفراد مطلوبون أمام جهات التحقيق القضائي، ولا يملك أحد حمايتهم بالقفز على القانون، وهناك جهة مطلوب منها تنفيذ القانون، إلى هنا الأمر عادي، بل وعادى جدا جدا، لكن غير العادى، الضجيج الذي صاحب الواقعة وذهب بها إلى مناحى لا علاقة لها بالموضوع.
المطلوبان تحصنا بالنقابة لحمايتهما، وهذا دورها، وإن لم تفعله سيكون المجلس متهما بالتقصير في حقهما، لكن علينا أن نقف بقدر من التروى أمام الواقعة ونتساءل.. هل المطلوبان متهمان في قضايا نشر؟
فإذا كانت التهمة قضايا نشر، لا يجوز في هذه الحالة، وفق القانون، صدور قرار بضبطهما وإحضارهما، وبالتالى يصبح من حق النقابة الدفاع عن موقفها الداعم لهما بكافة الطرق القانونية، لكن صدور قرار بالضبط والإحضار، يعنى ارتكابهما جرائم، لا علاقة لها بقضايا النشر، وهذا أمر بديهى لا اجتهاد فيه، الأمر الذي لا يستوجب بالأساس، تصعيد الأزمة إلى هذا المستوى الذي وصلت إليه، أما وزارة الداخلية المنوط بها تنفيذ قرار النيابة، فكان عليها التروى واتباع أساليب المواءمة السياسية، مثل توجيه مخاطبات رسمية للنقيب، قبل القبض عليهما من مقر النقابة، فهى لم تتعامل مع الأمر بحنكة سياسية، خاصة في ظل تزامن الواقعة مع الاحتفال باليوم العالمى للصحافة.
شاهد الحال يؤكد أن ما جرى فتح الباب لبعض المتربصين من أصحاب التوجهات المرفوضة شعبيا، لاستغلال الأزمة، بهدف توجيه مسارها ضد الدولة لتحقيق أغراضهم، بإدخال مؤسسة الرئاسة طرفا تحت لافتة الدفاع عن حرية الصحافة، فضلا عن ترويج الاتهامات المغلوطة والشائعات المغرضة عن طريق البث المباشر من داخل النقابة للقنوات الإخوانية، بما يمهد الطريق لهجمة غربية ضد مصر والرئيس عبدالفتاح السيسي، أما على الجانب الآخر فتم جذب المئات من الفئات المأجورة، والمسجلين خطر، بدعم من نواب سابقين، لإهانة الصحفيين، تحت شعار التصدى للفئة المناهضة للدولة، كنوع من الانتقام أو تصفية الحسابات من أطراف جرى فضح فسادها في سنوات حكم «مبارك».
هذه التصرفات العشوائية تحمل في أحشائها، دعوة غير مسئولة لانقسام المجتمع، فتاهت الحقيقة بين صخب أجوف هنا وحماقة نكراء هناك، الأمر الذي ساهم في تنامى اللغط داخل أوساط الرأى العام، وجعل المهووسين بالإفتاء فيما يعلمون ولا يعلمون، يدلون بدلوهم في قضية لا يعرفون أبعادها السياسية أو القانونية على حد سواء، تبلور هذا المشهد عبر حملات منظمة على مواقع التواصل الاجتماعى، شارك فيها مؤيدو الطرفين، من لديه وعى بما يقول ويقصد، وآخرون لا يملكون قدرا من المعرفة، راحوا يرددون ما يتلقون من بيانات مثل الببغاوات، ويصرخون في أي زفة مثل دراويش الموالد ومرتادى حفلات الزار، إلى أن بلغت الأمور حدا غير مسبوق من التفاهة.
لا يوجد عاقل في هذا البلد يستطيع أن يقف ضد حرية الصحافة، أو لديه الرغبة في توحش السلطة على أنقاض حرية الرأى والتعبير وحق القارئ في المعرفة، فضلا عن أن الصحافة هي سلطة الرقابة الشعبية على أداء مؤسسات الدولة بما فيها السلطات المنتخبة، شريطة أن يكون رأيا وليس شيئا آخر مثل السب أو القذف أو بث الشائعات أو التحريض على نشر الفوضى بهدف إرباك البلاد.
أيضا لا يوجد عاقل يقبل إهانة الدولة، وكسر إرادتها أمام أي فئة من فئات المجتمع مهما بلغت أهمية تلك الفئة، ومهما كان الدور الذي تلعبه في البناء، لذا فإن تعلية سقف المطالب، باعتذار الرئيس وإقالة وزير الداخلية، هو نوع من الشطط يذهب بالقضية بعيدا عن سياقها الموضوعي، ولا يحمل في الوقت نفسه أي قدر ولو ضئيل من الكياسة السياسية، فلا يمكن بحال من الأحوال الموافقة على تردديد مثل هذه النغمة النشاز بمناسبة وبدون مناسبة، خاصة إذا علمنا أن المواطن يكتسب أهميته في ظل دولة القانون، وهى لا تترسخ في ظل العبث، إنما بقوة مؤسساتها وإنفاذ القانون على الجميع.
في هذا السياق المشحون بالصخب والضجيج، سيطرت على ذهنى رغبة ملحة لمشاهدة القنوات الإخوانية لمعرفة كيفية معالجتهم الإعلامية للأزمة المشتعلة وجدتهم يعيشون في عالم غير الذي نعيش فيه، عالم افتراضى يدور في خيالاتهم وحدهم باعتباره ترجمة لأمنياتهم الدفينة، راحت برامجهم تتحدث عن ثورة الصحفيين، التي التف حولها الشعب ضد ما دأبوا على تسميته بـ «الانقلاب»، كان لافتا للنظر أن الرسائل الإعلامية التي تبثها تلك القنوات، تحرض على تنامى وتيرة الصراع بين مؤسستين مهمتين في الدولة، الصحافة والداخلية، الأولى لسان الشعب وملاذ الضعفاء ضد الظلم، أما الثانية فهى سلطة إرساء دولة القانون.. لذا أحذر من الفتنة ودخول «الهتيفة» دائرة الأزمة.
يمكن لنا جميعا أن نتفهم، تباين وتعارض وجهات النظر والمواقف في العديد من القضايا، لكن في المقابل لا يمكن لأحد أيا كان موقفه الداعم لطرف ضد آخر، ومهما بلغت براعته في القفز على المنطق، الصمت على أي محاولة من شأنها المساس بالدولة الوطنية، فهذا خط أحمر لا يخضع للمواءمات السياسية أو ما يدور تحت لافتة المعارضة وحرية التعبير.
الرأى العام كان يتوقع من طرفى الأزمة خطابا مسئولا، عاقلا، متزنا، قادرا على تجاوز المشهد الصاخب والكشف بجرأة عن الجوانب القانونية المتعلقة بكل ما جرى، والإعلان بشجاعة عن سوء التصرف الذي ارتكبه كل طرف، بعيدا عن العناد والمزايدات، إلا أن التعاطى مع الحدث جاء مغايرا للتوقعات وعكس حالة السلبية من الدولة والاندفاع نحو رفع سقف المطالب بدون روية.