التصعيد في وسائل تعبير الشارع العراقى عن مظاهر ثورته ضد ما آلت إليه أحوال هذا البلد العريق، حيث بلغت ذروتها مع دعوة الزعيم الدينى، مقتدى الصدر، الحشود الهائلة التي شهدتها ساحة التحرير إلى الاعتصام المفتوح أمام المنطقة الخضراء، مقر المؤسسات الحكومية وسكن كبار المسئولين بها.. كل هذه التطورات السياسية الخطيرة لا تبدو بمعزل عن طبيعة الإشارات الطائفية التي تفرض نفسها على الصراع الدائر بين معسكرين في المنطقة العربية، السعودية وإيران.. لذا تبدو أزمة العراق جزءًا من ملامح خريطة المنطقة العربية.
لهجة البيانات الحادة بدأت قبل موعد الاعتصام المفتوح بيومين من مكتب رئيس الوزراء العراقى، حيدر العبادى، ثم تلتها بيانات صادرة عن ائتلاف دولة القانون وحزب الدعوة - جهات معروفة بموالاتها لإيران - لا تخلو من التلويح الصريح باستخدام القوة المسلحة ضد التيار الصدرى.. مما يُنذِر بأعنف مواجهة بين الكتل الشيعية الرئيسية في المشهد السياسي منذ عام ٢٠٠٣. لهجة التصعيد الحادة وتهديد حزب الدعوة الذي ينتمى إليه العبادى جاء مخيبًا لتوقعات من انتظروا حتى اللحظات الأخيرة ما قبل انفجار الموقف أن يطرح العبادى رؤية سياسية تعكس فهمًا أعمق لغضب الشارع العراقى والانحياز إليه في بيانه. بدلا من محاولات جر الحكومة إلى صراع مع الشعب، واستدراج التيار الصدرى إلى منطقة صراع مع الأمن الذي يقوم بحماية مئات آلاف المتظاهرين في ساحة التحرير.. كل هذا تحت زعم أن الاعتصام يضم عناصر مسلحة من جيش المهدى وسرايا السلام التابعين لمقتدى الصدر.
رغم ما قد تبدو عليه الصورة العامة عن تأثير تيار مقتدى الصدر الغالب على حركات الاحتجاج التي تعم إرجاء العراق إلا أن النظرة الأقرب تؤكد أن الحشود الهائلة هي نتيجة تكاتف مجموعة قوى، على رأسها التكتلات والأحزاب المدنية المختلفة، كما تشكل الكتل الطلابية قوة لا يستهان بها، أيضًا موظفو الحكومة جزء أساسى من هذه الحشود وهم شريحة متضررة من الأزمة الاقتصادية نتيجة الفساد الذي انتشر في مؤسسات الدولة عبر سنوات تولى نورى المالكى رئاسة الوزارة.. خصوصًا بعدما أعلن مؤخرا وزير المالية أن العجز في ميزانية الدولة سيجعلها غير قادرة على صرف مرتبات موظفى الحكومة!. الكتل السنية وضعت يدها بيد مقتدى الصدر في تحالف ورؤية سياسية قائمة على أساس المشاركة من أجل المصلحة العامة للعراق، والتي تفرض التحالف بين القوتين في الأزمة الحالية، خصوصًا أن التوقيت لا يحتمل الدخول في خلافات جانبية بينما هناك أحزاب تهدد بالمواجهة المسلحة.
مع كل التداعيات الخطيرة للتصعيد ورغم صدق نوايا العبادى ومعرفة حجم الضغوط التي يتعرض لها.. إلاّ أنه ما زال عاجزًا عن فك «الشفرة» التي تمكنه من التعامل مع حالة الغضب العراقى.. الأزمة تكمن في حتمية تغيير البنية التي قامت عليها العملية السياسية وليس مجرد «تغيير وجوه» أو لعبة «كراسى موسيقية».. العبادى يصر على البقاء مع حزب فاشل أصبح في سنوات قليلة يشكل الموروث الأسوأ لدى العراقيين. دعوة الاعتصام - وهى أقصى مظاهر التعبير عن زخم المطالب الشعبية بعد أكثر من مهلة زمنية منحها الشعب للعبادى كى يجرى الإصلاحات الجذرية التي يطالب بها الشارع - لم يستغلها رئيس الوزراء كى يحقق لنفسه مساحة «انفصال سياسي» عن الحزب الذي يُحمّله الشعب مسئولية جرائم الفساد وغرس بذور الطائفية في النسيج العراقى. كما أن العودة إلى ذات الكتل السياسية التي أدت إلى المحاصصة والطائفية ستصبح مجرد مناورة خاسرة على مطلب تشكيل حكومة «تكنوقراط».. إذ سيقدم كل من هذه الأحزاب الطائفية أحد أعضائه لشغل منصب وزارى تحت زعم «التكنوقراط» لمجرد أنه يشغل مهنة بحكم مؤهله الدراسى، بينما هذه الشخصيات لن تمثل التوجه الحكومى العام في أدائها السياسي الذي سيكون في واقع الأمر خاضعًا لإملاءات انتمائهم الطائفى أو الحزبى.
كل محاولات العلاج عن طريق «المسكنات» انتهى وقتها في العراق.. كما أنها لن تضمن الاستقرار لأى حكومة أو تشكيل وزارى.. ولا ستفلح كل المناورات في صرف الحشود المطالبة بالإصلاح الجذرى من ساحة التحرير.. البديل الوحيد للخروج من الأزمة خطة جادة للتحرك في عدة مسارات، أهمها: أولًا تشكيل حكومة إنقاذ وطنى من مختلف مكونات نسيج الشعب العراقى، على أن توضع الطائفة كآخر شروط الاختيار في مقابل إعطاء الأولوية للكفاءات السياسية التي لم تتلوث في مستنقع الفساد والقبول الشعبى لعناصر التشكيل.. ثانيًا وضع خطة اقتصادية تقشفية عاجلة تنقذ العراق من أزمته الطاحنة.. ثالثًا إلغاء البرلمان لمدة عام يتم خلاله تهيئة المناخ من أجل إرساء قواعد عملية سياسية جديدة على أسس النزاهة والشفافية بعيدًا عن أي تدخل إقليمي - إيران تحديدا.
الاعتصام الذي بدأ الجمعة الماضى وشهد إطلاق صافرات الإنذار داخل المنطقة الخضراء لأول مرة منذ عام ٢٠٠٣.. هو الإنذار الأخير قبل طوفان شعبى سيفرض إرادته عاجلًا أو آجلًا.