تَوقُع بعض التحليلات الصادرة عن إسرائيل، منذ ٢٠١٣ حتى الوقت الحالى، حول نشوب صراع مع مصر وترجيح وصوله إلى المواجهة المسلحة قد يُفهم فى إطار مجرد قراءات مختلفة لمستقبل العلاقات بين الدولتين.. لكن ما يستدعى الملاحظة ورود هذه التوقعات على أبرز المواقع الاستخبارية الإسرائيلية - «والا» و«ديبكا» - ومراكز استخبارية مهمة مثل مجلس الأمن القومى الإسرائيلى.. بل ذهبت التوقعات إلى صياغة سيناريوهات مختلفة أغلبها قائم على افتراضات حول مستقبل العلاقات بين مصر من طرف وبين السلطة الفلسطينية وحماس على الطرف الآخر.
المعروف أن الهاجس الأمنى هو، جغرافيًا وتاريخيًا، جزء من العقيدة اليهودية.. بل يشكل إحدى القواعد الأساسية التى قام عليها هذا الكيان.. بالتالى لم يكن هينًا على إسرائيل الموافقة على مراجعة شروط الاتفاق الأمنى الذى وقعته مع مصر فى إطار معاهدة كامب دافيد حول منطقة سيناء. بعدما وجدت إسرائيل نفسها بين خيارين كلاهما أصعب من الآخر ولا يجمعهما سوى الهاجس الأمنى المسيطر على عقيدة تأسيس هذا الكيان.. إسرائيل تدرك جيدًا أن كل «التفاهمات» السرية مع حماس - وتشمل بالطبع بقايا التنظيمات الإرهابية فى سيناء - لضمان عدم توجه الإرهاب نحو قلعتها المحصنة عسكريًا هى مجرد اتفاقات هشة لن تتوافر لها صفة الثبات والاستقرار، خصوصًا بعدما ظهر عجز حماس عن السيطرة على جموح داعش وباقى التنظيمات خلال عدة مواقف أظهرت مشاهد التحدى المسلح من جانب هذه التنظيمات لسلطة حماس فى قطاع غزة.. كما أن المعروف تاريخيًا عن هذه التنظيمات كثرة التنقل بين حالات التحالف والانشقاق عن بعضها، بالتالى كل رسائل «الاطمئنان» التى تبعث بها حماس عبر أطراف التواصل مع إسرائيل لن تجدى فى تهدئة الهاجس الإسرائيلى الذى وجد نفسه مجبرًا على حل مراجعة البنود الأمنية الخاصة بتواجد الجيش المصرى فى منطقة سيناء.. حتى أن موقع «ديبكا» اعترف أن الجيش المصرى يخوض فى سيناء حربًا أهم وأشرس من حرب ١٩٧٣.
توجه مصر بعد ٢٠١٣ إلى دعم تسليح الجيش والتنوع فى مصادره عن طريق عدة اتفاقيات أبرمتها مع دول مختلفة كان أمرا صائبا وحتميا لتدارك الخطة الكارثية التى شرعت «عصابة البنا» فى تنفيذها عبر عام حكمها الظلامى، والتى سعت إلى جعل منطقة سيناء «الدولة البديلة» أمام كل التنظيمات الجهادية. لكن «عقدة» الأمن و«هيستيريا» الشعور بالتهديد من قوة الجيش المصرى من جانب الطرف الإسرائيلى غلبتا حتى على القراءة الصحيحة للتاريخ.. وإن العقيدة التى تحكم قوة الجيش المصرى لن تتبنى حاليا أو مستقبلا أى تغيير فى استراتيجيتها الجغرافية والتاريخية.. وهى الدفاع عن أمن وحدود مصر. الغريب أن اعتماد مواقع مثل «والا» و«ديبكا» على هواجس نفسية لا ترقى إلى مستوى طبيعة العمل الاستخبارى فى الكشف عن المعلومة الدقيقة، وهو الدور الذى يُفترض أن هذه المواقع تزعمه لنفسها، لكنها فى المقابل اعتمدت على سيناريوهات ركيكة أو أطماع لن تصب فى صالح الأمن الإسرائيلى مثل فرضية استعادة إسرائيل السيطرة على الضفة الغربية ما يستدعى تدخل الجيش المصرى لصالح السلطة الفلسطينية - احتمالية يقترن حدوثها «بالتفاهمات» الدائرة بين إسرائيل وحماس - غاب عن محللى هذه المواقع أن تصاعد موجات العنف المسلح هو الحقيقة التى سيصطدم بها الهاجس الأمنى الإسرائيلى - حتى قبل مخاوف المواجهة المسلحة مع الجيش المصري - فى حال إسقاط إسرائيل السلطة الفلسطينية. إسرائيل هذه المرة لن تخوض حربها عند مناطق الحدود كما حدث سابقًا فى جنوب لبنان، لكن القراءة الأدق تؤكد أن الإرهاب سيكون موجهًا نحو قلب مدنها وعاصمتها.
المثير للدهشة أن جميع محللى وكتاب هذه المواقع ترجع جذورهم إلى العمل فى المؤسسات الاستخبارية الإسرائيلية. والمفترض أنها تقيم نظرياتها «الاحتمالية» بناء على رؤية دقيقة للمعلومات وليس اعتمادًا على «هلاوس» أمنية تفترض أن أى صفقة أسلحة تعقدها مصر لا بد أن تكون موجهة نحو إسرائيل!.. بل تتمادى فى سلسلة «التخاريف» حول تبعات التنسيق الأمنى الذى منح الجيش المصرى حرية التحرك لمواجهة التنظيمات الإرهابية فى سيناء فى استعراض مخاوفها من بقاء الجيش فى سيناء بعد اكتمال تطهير سيناء من الإرهاب! علمًا بأن التاريخ لا يذكر تورط الجيش المصرى فى خرق أى معاهدة أمنية.. وأن الخروق كانت تحدث دائمًا من الجانب الإسرائيلى.. ويبدو أن جهاز «الموساد» وباقى المؤسسات الاستخبارية العسكرية فى إسرائيل بحاجة إلى إعادة تأهيل العاملين بها حول الفرق بين التعامل مع جيش وطنى منظم وبين مجموعة «مرتزقة» تشكل قوة عسكرية. أخيرا.. لو صدقت الإشارات الصادرة عن الدبلوماسية الإسرائيلية حول رغبتها كسر جمود العلاقة مع دول منطقة الخليج والسعودية.. فإن هذه «الكوابيس» التى تنتاب الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية بالتأكيد لن تكون عاملًا مساعدًل فى تهيئة المناخ الإيجابى لتحقيق أى تقدم نحو هذه الخطوة.