السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أنا مش فاهم حاجة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لو فيه حد فاهم حاجة من اللى بيحصل فى البلد على كافة المستويات، يقوللى، لو حد يعرف الأسرار الحقيقية وراء عزومة توفيق عكاشة لسفير الكيان الصهيونى فى منزله، ولديه دراية بمن الذى دبر ورتب، ومن الذى أشرف على التنفيذ، يقوللى. كمان لو فيه حد عارف ليه القيادة السياسية متمسكة بالإبقاء على الحكومة، رغم الغضب الشعبى على سياساتها الفاشلة، يقوللى. لو فيه حد يعرف مين مؤيد لمين، ولا مين معارض إيه، وليه، برضه يقوللى، بس ياريت اللى يعرف حاجة من كل ده ومستعد إنه يقوللى عليها، مطلوب يكون كلامه موزون، يعنى من غير تنظير وتقعير، يعنى بعيد عن الهرتلات والـ «هرى»، أو الاستعراض فى ادعاء العلم ببواطن الأمور، أو الزعم بمعرفة ما يجرى فى كواليس السلطة، من ترتيبات وأسرار وصراعات، خاصة أن الساحة أصبحت ممتلئة بالفهلوية وجهابذة الإفتاء، فكل من دخل قصر الاتحادية بدعوة لحضور مناسبة، أو قادته الظروف للمرور بجواره مصادفة، وهو فى طريقه إلى منزله أو عمله، أصبح «أبو العريف» يفهم كل حاجة فى أى حاجة، يفتى فى الشأن الاستراتيجى وأبعاد الأمن القومى، ويدلى بدلوه فى القضايا الكونية المعقدة، ولا حكيم زمانه، وأيضا كل من ساهمت الصدفة فى ظهوره على القنوات الفضائية عن طريق المال أو العلاقات، صار صاحب رؤية ثاقبة، قادرة على رصد أسباب المتغيرات فى السياسة الإقليمية والعلاقات الدولية.
عن نفسى أقر وأعترف بأننى مش فاهم حاجة فى أى حاجة من كل اللى بيحصل، ويقينى أننى سأظل على حالى، إلى أن يقضى الله أمرا كان محتوما، أما الأسباب فهى كثيرة، ربما يكون منها، ما هو ناتج عن غباء متوطن أو جهل متأصل، أو أى وصف آخر لشخصى غير المواكب للتطورات العصرية، مصرا على البقاء فى زنازين الموروثات البالية، فشخصى أدمن منذ سنوات الصبا البعيدة، تصديق الطنطنة بالكلمات الحماسية، والأغانى الوطنية عن الانتماء والانتصار لقضايا القومية العربية والمبادئ التاريخية، وبقية المصطلحات التى حفظناها عن ظهر قلب وشكلت قناعاتنا، سواء عرفناها من الكتب أو سمعناها من النخبة الإعلامية وتصريحات المثقفين، وتدور جميعها فى فلك واحد لا يتغير بتغير أنظمة الحكم أو السياسات، مفادها، أن عدونا الأزلى، هو الكيان الصهيونى المغتصب للأرض العربية، وأن اتفاقية «كامب ديفيد» التى وقعها السادات مع الكيان الصهيونى، فى نهاية سبعينيات القرن الماضى كارثة على مصر وردة على المفاهيم القومية.
رغم اعترافى بعدم قدرتى على فهم أبعاد ما يجرى من حولى، إلا أن سذاجتى، جعلت عقلى يوحى لى بأمور ربما تكون أقل فى قيمتها من تفكير أصحاب بعض العقول الخارقة للعادة، منها أن أزمة توفيق عكاشة كانت بمثابة عصا موسى التى ابتلعت فى أحشائها مساحات الغضب المتنامية من الأداء السلبى للحكومة، وغيرها من القضايا الحياتية التى شغلت الرأى العام فى الآونة الأخيرة. 
كما أن سذاجتى، رسمت أيضا أمام مخيلتى المتواضعة فى تحليل الأحداث، ما مفاده، أن توفيق عكاشة رغم الجدل الذى يحيط بشخصيته العصية على الفهم والتى يتراوح وصفها بين الجنون والقيام بتنفيذ ما يوكل إليه من مهام، لا يجرؤ على لقاء السفير الإسرائيلى فى منزله بدون علم كل أجهزة الدولة أو على الأقل أحدها، لأن مجرد توجيه الدعوة للسفير الصهيونى بدون علمها، يعنى أننا مش فى دولة بالمعنى الحقيقى الذى يعرفه الكافة، لكننا فى مشهد فوضوى عبثى، قل عنه من الأوصاف ما شئت، لكن إياك أن تقول «دولة»، فالأفضل نقول إننا فى سيرك، تمارس فيه كل أنواع الـ«شقلبظات»، فأى شخص أو مهووس بالشهرة أو جنون العظمة، يفعل ما يحلو له دون مساءلة من أحد أو جهة. 
المصيبة أن عكاشة ليس شخصا عاديا، لكنه محسوب على النخبة، لموقعه النيابى فى البرلمان وعمله فى مجال الإعلام ويعلم أن مجرد الاتصال بجهات أجنبية دون الرجوع إلى ذوى الاختصاص، والمقصود أجهزة الدولة، كارثة، فما بالنا إذا كانت هذه الجهة هى سفارة إسرائيل وسفيرها العنصر الاستخباراتى فى الموساد، أما الأخطر من هذا فهو الحديث وتبادل الآراء فى أمور تخص الأمن القومى المصرى والتفاوض على حل أزمات دولية والوعد بالبدء فى التطبيع، فضلا عن التشاور وعقد صفقات فى أمور أخرى تتعلق بالشأن الاستراتيجى للدولة مع عدو تاريخى مغتصب للأرض، كما أن عكاشة الذى دأب على تجاوز المألوف يدرك أن الاتصال بجهة أجنبية والتحدث مع أفرادها فيما يخص قضايا الأمن القومى خيانة. ولأنه يدرك المخاطر والاتهامات، لذا لا أظن أنه فعل هذا بدون الرجوع لتلك الأجهزة، ويقودنى هذا التفسير على قدر قلة فهمى، إلى أن هذه الجهات تفتعل الأزمات داخل المجتمع أو أنها تحاول تكريس مفاهيم مرفوضة شعبيا. 
قطعا لن تمر أزمة عكاشة مرور الكرام سواء فى البرلمان أو على المستوى النخبوى، نتيجة لعدة أمور منها أنه نسف كل ما كان يروج له من اتهامات للكيان الصهيونى وضلوعه فى المؤامرة على مصر، وما أعقب ذلك من أمور متعلقة بتأثير استضافة السفير على سمعة البرلمان المصرى، الذى شهد صخبا غير مسبوق فى تاريخ الحياة النيابية، جراء هذا التصرف غير المرغوب فيه شعبيا، فكثيرون بداخل البرلمان سيطالبون برد اعتبار المجلس الممثل للشعب بكل طوائفه وشرائحه الاجتماعية والسياسية وهى الشرائح التى رفضت التطبيع مع هذا الكيان. 
الشىء الوحيد الذى يمكن الجزم به أن توفيق عكاشة أقدم على الانتحار سياسيا وإعلاميا، سواء كان هذا الانتحار قرارا فرديا، أى اتخذه طوعا، أو تنفيذا لرؤية جهات ستظل بالنسبة لنا غامضة، لكن النتيجة واحدة!