لا أذيع سرا إذا قلت وأكدت وجود حزمة من المفاهيم، ترسخت فى أذهان الكثيرين، مفادها بأن التجاوزات المتكررة من بعض المنتمين إلى جهاز الشرطة «الأمناء»، صارت مزعجة وتنذر بتداعيات لا حصر لها، كما أنها جعلت سلطات الدولة بأكملها فى مرمى الاتهامات من الرأى العام الذى يعتقد غالبيته، أن الصمت على التجاوزات التى بلغت حد ارتكاب الجرائم، تعبير عن الرضا، وعدم الردع والعقاب السريع نوع من التواطؤ العمدى، هدفه إرهاب المجتمع ودهس كرامته، فضلا عن تنامى وتيرة الشكوك الرامية لإثارة الفتنة، مرورا بالحديث عن التحريض ضد الرئيس عبدالفتاح السيسى وعرقلة توجهاته، عبر شحن المجتمع بالإحباط، والوصول به إلى ذروة الغضب، بما يعنى أن التجاوزات ممنهجة، وتقف خلف مراميها قوى غامضة، فضلا عن أنها تمثل إحراجا لوزير الداخلية والقيادات الأمنية، التى تبادر إلى استخدام أساليب الردع فى مواجهة التصرفات الفوضوية، ورغم ذلك لا تنجو من الاتهامات، خاصة إذا علمنا أن الأحاديث المتداولة تدور فى فلك، عنوانه يصب فى أن قيادات الداخلية لا تستطيع التصدى لجبروت تلك الفئة، لأنهم على دراية بخريطة الجريمة فى دوائر عملهم أكثر من الضباط، بما جعلهم مراكز قوى وأباطرة داخل الأقسام وبيدهم توجيه قياداتهم، فى هذه الزاوية يكمن سر الغرور.
فقبل أن نفيق من صدى صدمة أو أزمة أو كارثة يتسبب فيها بعض أفراد الشرطة، تداهمنا الأخرى بوجه أكثر قبحا من سابقتها، وكأن تكرار الجرائم فى حق أفراد هذا الشعب أصبح قدرا محتوما، علينا أن نتعايش مع مشاهده اليومية بكل ما فيها من قهر وظلم وعبث، ويفرض علينا أيضا أن نتجرع مراراته، دون أن نتألم أو نشكو أو حتى نطالب مجرد المطالبة، بتطبيق القانون على الجميع ومحاسبة المخطئ أيا كان اسمه ومهما بلغ نفوذه، لأن الحديث فى هذا الشأن للأسف يزعج فاقدى الأهلية الوطنية، ممن لا يعنيهم استقرار هذا البلد فى إطار مساعيهم للتميز وفرض سطوة القبيلة، فهؤلاء يعتبرون أن إلقاء الضوء على الممارسات غير المسئولة نوع من الحرب الممنهجة على وزارة الداخلية التى تواجه الإرهاب وتقدم التضحيات.
هنا لا بد من التوقف أمام المصطلحات التى يتم صكها، وحشرها فى غير موضعها، بهدف خلط الأوراق واختلاف المبررات، نعم وزارة الداخلية تواجه الإرهاب، هذه قولة حق، لكن ترديدها بتلك الصورة الملتبسة يذهب بها لترسيخ الباطل، ويجعل التضليل عنوانا لكافة الممارسات غير القانونية، وهذه جريمة أخرى لا يمكن بحال من الأحوال إبعادها عن جملة الحوادث التى تجرى يوميا على اتساع الخريطة الجغرافية للبلاد.
الجيش أيضا يواجه الإرهاب، لكننا لم نر أو نسمع ولو مرة أن أحد أفراده خرج على القانون وانتهك الآدمية وأشهر سلاحه الميرى فى وجه الآخرين، لكونه منتميا لمؤسسة تدفع يوميا شهداء من أبنائها فى الحرب ضد الإرهاب، فهذه فريضة وطنية ورسالة أخلاقية وإنسانية، لا تقبل مجرد المزايدة من أحد على أحد بغرض إيجاد المبررات.
فمواجهة الإرهاب لا تمنح أحدا الحق فى القهر والتلفيق وفرض السطوة وارتكاب الجرائم، من فئة أدمن بعض أفرادها ممارسة التبجح والتعالى، اعتمادا على أن الدفاتر «دفاترهم»، هم الذين يحررون المحاضر ويقدمون التحريات، ويتحكمون فى مصائر البشر.
فضلا عن عدم احترامهم للدماء الطاهرة التى تسيل من خيرة أبناء الشعب «ضباط وأفراد الشرطة»، ممن قدموا وما زالوا يقدمون يوميا أرواحهم فداء لأمن واستقرار الوطن، فهؤلاء هم الشرفاء الذين نتباهى بهم، ونضعهم وساما على صدورنا، وتاجا فوق رؤوسنا، لأنهم يدفعون أرواحهم ثمنا لبقائنا ومستقبل أبنائنا.
فلو أن لديهم أدنى مسئولية وطنية، لوضعوا نصب أعينهم المكانة المرموقة للشهداء والشرفاء، وهؤلاء ما أكثرهم من الضباط والأمناء والجنود فى الفظاعات الأمنية المتنوعة.
فى هذا السياق المشحون بالمفردات المغلوطة، لا يمكن قبول أن يتحول الشهداء إلى شماعة يريد بعض «المستهترين» تعليق أخطائهم عليها، فهذه التبريرات غير المنطقية، ليست سوى رغبة فاضحة لتغييب القانون ودهسه، بهدف تكسير عظام الحقيقة، حتى تصبح عاجزة عن مواجهة الفوضى، فالحقيقة هى تعبير عن سيادة القانون، كما أن إعلاء القانون يرسخ لقوة الدولة.
ففى أعقاب جريمة قتل سائق الدرب الأحمر على يد شرطى، وهى الجريمة التى أشعلت الغضب فى النفوس، خرج بعض المسئولين بتصريحات أقل ما توصف به أنها عبثية، لما تتضمنه من إهانة للمجتمع واستهانة بالعقول، مفادها بأن القاتل عندما أخرج مسدسه أطلق الرصاص فى الهواء ولم تكن نيته القتل، حدث هذا قبل القبض على الشرطى والتحقيق معه، الأمر الذى أثار الشكوك ودفع إلى توجيه الاتهامات!
إن مثل هذه الفئة التى تحفز على الغضب، لا تدرك أن الشرطة تكتسب هيبتها ومكانتها من احترام ضباطها وأفرادها للقانون، وليس دهسه استقواء بالسلطة والنفوذ، إلى جانب التمتع بالحماية التى يوفرها من يظنون أن إدانة بعض مرتكبى الأخطاء سيقود بالتبعية لإدانة الداخلية بأكملها، رغم أنها أخطاء فردية وجرائم شخصية ومرتكبوها ليسوا فوق القانون.
إن الصمت على ما نراه حولنا يمثل جريمة، ترقى إلى مستوى التورط فى المشاركة، فمن منا لا يرى ما يحدث من ممارسات يرتكبها بعض أمناء الشرطة فى الأقسام والكمائن، ومن منا لا يتخوف من استمرار هذا الوضع الذى يمثل خطرا على مستقبل الدولة واستقرارها.
فالدولة القوية تفرض هيبتها على الكافة، بإعلاء القانون، هى وحدها التى تمنحه السطوة، تجعله يقظا ساهرا على حماية المجتمع من العبث، تنتصر به على الإرهاب والفوضى وقوى الظلام، تطبقه على الجميع، لا فرق بين فرد وآخر، الكبير والصغير، الغنى والفقير، صاحب السلطة، والمواطن البسيط قليل الحيلة، أما إذا غابت الدولة فهذا سيجعل «القانون» مقهورا مغلوبا على أمره، سجينا فى زنازين المواءمات السياسية والحسابات الأمنية، يتم تجاهله، دون الأخذ فى الاعتبار أن خطأ رجل الشرطة يوضع دائما فى مرمى العيون، سواء كان الخطأ صغيرا أو كبيرا، باعتباره ممثلا لقوة الدولة وهيبتها ورمزا لسلطة القانون، فضلا عن أن الشرطة أحد الأركان التى تكتمل بها منظومة العدالة.