أعلم أن القضية شائكة، والغوص فى تفاصيلها محفوف بقدر هائل من الحساسية، لذا فإنها لا تحتمل ترف كتابة المقدمات أو رفاهية تزويق العبارات، ومن فرط أهميتها لا تحتمل أيضا جدل المزايدات من غير أطرافها.
الحديث يخص الأزمة المشتعلة بين نقابة الأطباء ومجموعة من أفراد الشرطة، وهى التى جرى تداولها على نطاق واسع فى أوساط الرأى العام، فى أعقاب اعتداء بعض الأمناء على اثنين من الأطباء بمستشفى المطرية التعليمى، ووضع الأساور الحديدية فى أيديهما واقتيادهما إلى قسم الشرطة وما تلا ذلك من أمور توصف بالعبثية، جراء تحول الجناة بقدرة قادر إلى مجنى عليهم والمجنى عليهم صاروا متهمين.
بعيدا عن الخوض فى التفاصيل التى تناولتها القنوات الفضائية ووصلت أصداؤها إلى مجلس النواب، سأتوقف أمام النتائج الفوضوية لهذه الأزمة، أولها واقعة دهس القانون تحت أقدام بعض أفراد الشرطة، ممن تصوروا أنفسهم فوق القانون، فضلا عن تعامل جهات التحقيق مع المحاضر التى يحررونها ضد خصومهم أو المقبوض عليهم، على أنها حقيقة مطلقة لا يقترب منها الشك.
أما الثانى فهو الخاص بقرار نقابة الأطباء المتضمن إغلاق قسم الاستقبال بالمستشفى أمام المرضى، جراء التصعيد من نقابة الأطباء، فإن كان هذا حقها والواجب المنوط بها تجاه أعضائها لحمايتهم، عبر استخدامها أدوات التصعيد والتهديد، إلا أن ذلك لا يمنع اتهامها بالتخلى عن أداء رسالتها تجاه المجتمع.
فى الحالتين لايوجد إدراك لخطورة ما يحدث من جرائم على استقرار الدولة، فالضحية هو المواطن البسيط الذى لا ينتمى إلى كيانات أو تنظيمات تدافع عن حقوقه، أو استخدام أساليب الضغط لحمايته سواء من الجبروت أو الإهمال.
الواقع على الأرض يؤكد حقيقة التجاوزات والممارسات غير القانونية داخل الأقسام، والتى تبدأ بالشتائم والسباب ولا تنتهى بالتطاول واستخدام العنف البدنى.
الصمت على هذه الحقيقة جريمة، لكن الجريمة الأكثر خطورة والأشد ضراوة، هى السعى الدؤوب لخلط الأوراق بهدف ترسيخ ملامح العداء لوزارة الداخلية بأكملها جراء أخطاء بعض أفرادها ممن لا يدركون عواقب ما يفعلون.
المثير فى الأمر أن الجميع يرى تلك الجريمة، لكنهم لا يتوقفون إلا أمام انحيازاتهم الرامية لأن تضع الشرطة بأكملها فى مرمى سهام الاتهامات سواء كانت جانية أو مجنيا عليها، مدفوعين فى ذلك بدعم إعلامى مجمله لا يتحرى الدقة فى ما يتناوله.
هنا لابد من التأكيد على أن جهاز الشرطة ليس مستوردا من الخارج، فهو مثل غيره من مؤسسات الدولة، يضم بين صفوفه الصالح والطالح..الشريف والفاسد، لكن هناك حقيقة أخرى لا يمكن تجاوزها وهى أن خطأ رجل الشرطة يوضع دائما فى بؤرة الاهتمام، باعتباره ممثلا ورمزا لسلطة القانون وهيبة الدولة، بخلاف الفئات والوظائف الأخرى. فى أجواء اللغط المتنامى تبقى التساؤلات مطروحة بقوة:
هل تمارس الشرطة العنف الممنهج؟ أم أن ما يحدث من وقائع يمثل أخطاء فردية؟.. مع الأخذ فى الاعتبار أن تكرار الوقائع وتعددها من مكان لآخر يرسخ لدى المواطن العادى والرأى العام أنها سياسة ممنهجة.
هل خصومها شياطين على إطلاقهم؟.. وما الدور الذى تقوم به وزارة الداخلية للحد من تجاوزات بعض أفرادها؟.
هذه التساؤلات وغيرها سيطرت على الأذهان فى أعقاب واقعة الاعتداء على الطبيبين، الغريب أن الأزمة نشأت جراء تجاوز القانون، رغم أن مهمة «المتجاوز» حماية القانون والدفاع عنه وليس الخروج عليه، فمهما كانت الظروف لا يحق لرجل الشرطة اقتياد مواطن إلى قسم الشرطة.
الأمر بالنسبة لى يتجاوز الحدود الضيقة للواقعة وأفرادها من الطرفين، أكرر مرة أخرى «أفرادها»، وامتد إلى الكيانات والمؤسسات، وهذا هو مكمن الخطورة، خاصة إذا ما علمنا أن تلك الممارسات لا تصب فى صالح الدولة المصرية. الأزمة ذاتها كشفت النقاب عن حقائق بغيضة ترسخت بفعل فاعل وتغاضت عنها الدولة عمدا، وهى تقسيم المجتمع إلى تكتلات فئوية تدافع كل منها عن أفرادها، دون النظر إلى الغالبية الساحقة من المجتمع، ودون إدراك لتداعيات ومخاطر الانحياز الفئوى على مصير هذا البلد ومستقبل أجياله.
الحديث عن الانحياز الفئوى، أو بمعنى أكثر دقة، فرض سطوة القبيلة، لم يعد مقصورا على النقابات المهنية وحدها، لكنه امتد بصورة عبثية إلى الشرطة ذاتها، فبالرغم من أنها هيئة نظامية، تقوم على الانضباط باعتبارها إحدى الوزارات السيادية المنوط بها حماية الجبهة الداخلية وتأمينها من محاولات العبث بالقانون، إلا أن عدوى الفئوية القبلية انتقلت إليها فى وقت كانت فيه الفوضى سائدة على كافة المستويات داخل الدولة، حيث تم تشكيل نقابات مستقلة وكيانات أخرى لا تتفق مع طبيعة عمل أفراد الهيئات النظامية ذات الطابع الاستراتيجى.
نشأ ائتلاف أمناء الشرطة وأصبح بحكم التغاضى، وإن لم يكن معلنا، جماعة ضغط على صناع القرار داخل الوزارة ذات الأهمية، والشواهد على ذلك كثيرة، لعل أبرزها إغلاق مديرية أمن الشرقية، ومؤخرا إغلاق قسم شرطة مدينة السلام احتجاجا على نقل المأمور ونوعا من الضغط على صانع القرار فى مواجهة إغلاق مستشفى المطرية.
الصمت على بقاء تلك الائتلافات يرقى إلى مستوى الخطيئة الكبرى، لأنه يدفع لوجود تكتلات تدافع عن أعضائها على طريقة «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، دون نظر هؤلاء للمسئولية الوطنية التى تقع على عاتق الشرطة، باعتبارها مسئولة عن حماية القانون وتنفيذه، فضلا عن أنه سيحمل بغضاء ضد الجهاز الذى يدفع أبناءه على مدار الساعة كشهداء للواجب ومصابين لأجل القضاء على الإرهاب وتوفير الأمن للمجتمع.
فى هذا السياق لا ينكر أحد، مهما بلغت درجة مجافاته للواقع، الإجراءات الصارمة التى يقوم بها وزير الداخلية وكبار معاونيه بهدف التحقق من صحة الوقائع المنسوبة للمنتمين لهيئة الشرطة والتحقيق فيها أيا كانت أسماء مرتكبيها أو ترتيبهم فى مواقع المسئولية، ضمن إستراتيجية أمنية متكاملة ومتناغمة لإرساء قواعد دولة القانون، إلا أن الصغار دائما يضللون رؤساءهم بتقارير مغلوطة.