لا أعرف بالضبط ما الذى جعلنى أتذكر قصة الرسام الشهير «زويكس»، فقد رسم لوحة لعنقود من العنب وهبطت العصافير على اللوحة تنقر حبات العنب وكانت هذه أعظم تحية للفنان. فقد رسم «زويكس» العنب وجعله مطابقا تماما للعنب الحقيقى حتى انخدعت العصافير. ولكن الفنان ظل يبكى حتى مات، أما الذى أحزن الفنان على نفسه فهو أن باللوحة رجلا بيده عصا لتخويف العصافير، ولكن العصافير لم تخف منه، إذن فصورة هذا الرجل لم تكن طبيعية أو مطابقة للحقيقة لدرجة اقتناع العصافير. كما اقتنعت بعنقود العنب. ولذلك فالرسام قد نجح فى رسم العنب وفشل فى رسم الرجل الذى يخيف العصافير. وكانت هذه هى مأساة الفنان العظيم.
ولعل الدكتور أشرف العربى لم يقع فى الخطأ الذى وقع فيه الرسام العالمى «زويكس». كل ما يمكن أن نقول للسيد الوزير أنه لم يضع فى اعتباره عند إعداد قانون الخدمة المدنية البعد الثقافى فى البيروقراطية المصرية ولا إلى نفسية وعقلية ونمط تفكير وسلوك العاملين بالدولة الذى يتسم بالجمود وعدم الرغبة فى التغيير أو التطوير أو الإصلاح حتى لو كانت هذه الأمور ستحقق مصلحة الوطن ومصلحتهم. ما دفع فئات من العاملين برفض القانون وإعلان سخطهم وغضبهم وثورتهم ضده. ولا يعنى هذا الرفض أن القانون بأكمله سيئ ولكن قد يكون هناك مواد تحتاج إلى إعادة تقييم لإجراء تعديل عليها أو تغييرها أو إعادة صياغتها وضبطها دستوريا حتى يخرج القانون بشكله الجديد التوافقى من خلال التعاون والتنسيق بين مجلس النواب الموقر والحكومة المحترمة. لأن الدولة فى مسيس الحاجة إلى مثل هذا القانون حتى يمكن إصلاح الجهاز الإدارى وعلاج حالة التخلف وضعف الأداء وتدنى مستوى الخدمة التى تقدم إلى المواطنين وكلنا نشتكى ونئن من هذا الوضع، إلى جانب علاج الخلل والترهل وانتشار الفساد والانحراف فى مواقع كثيرة فى الدولة.
وكما نعرف جميعا أن الأصل فى البيروقراطية أو الجهاز الإدارى للدولة أن يكون محايدا بمعنى أن المسئولين يتولون تنفيذ السياسة العامة للدولة وبصرف النظر عن طبيعة أولئك الذين يتولون السلطة. ولهذا فإنه فى الدول الديمقراطية حينما تتغير الأحزاب وتتغير الحكومات ورؤساء الدول يبقى الجهاز الإدارى للدولة. حتى إن البعض يرى أن هذا الجهاز يشترك مع مؤسسات الدولة المهمة فى دعم الاستقرار والاستمرارية خاصة إذا كان يتصف بالجدية والكفاءة والشرف.
وإذا كان نجاح مقياس البيروقراطية يرتبط بمدى الكفاءة فى تنفيذ السياسة العامة للدولة سواء فى سرعة التنفيذ أو توفير الفاقد من الموارد العامة أو بالدفع نحو تحقيق أهداف خطة الإصلاح الاقتصادى فإن نجاح السياسة يقاس بقدرة القيادة الإدارية فى تيسير العمل داخل مؤسسات الدولة بضمير وكفاءة وشرف.
والقضية المحورية التى يجب أن ننطلق منها بعد القضاء على الفساد الموجود فى العديد من مواقع الجهاز الإدارى للدولة هى قضية العمل واحترام قيمته والاعتماد على الذات وأمامنا تجارب رائدة فى العالم فهناك التجربة اليابانية والتجربة الصينية، وتجربة النمور الأسيوية سنغافورة وهونج كونج وكوريا وماليزيا وكلها تجارب رائدة فى عملية التنمية وتطوير المجتمعات، وهى دول تكاد تتشابه معنا من حيث قلة الموارد وزيادة البشر. ويبقى السؤال المهم. كيف استطاعت هذه الدول أن تنطلق؟ والإجابة ببساطة بالإنسان. بالعمل المتقن والقدوة، بالقيادات المؤهلة المستقيمة التى تتصف بالأمانة والطهارة، استطاعت هذه الدول أن تحقق المعجزات وتختصر مراحل التطور وتسرع بعملية التنمية. ويأتى السؤال الثانى. ما الذى ينقصنا نحن حتى ننطلق؟ الإجابة بصراحة: ينقصنا كل ما اتصفت به النمور الآسيوية. وأهمها احترام قيمة الوقت والإنتاج والإتقان فى العمل. نحن هوة ولسنا محترفى عمل. نحن نبحث عن حقوقنا فقط دون أن نحترم ونؤدى واجباتنا، نحن بحاجة إلى وقفة موضوعية مع النفس فى ظل هذه الظروف والتحديات والمخاطر التى تواجهنا لكى نقيّم وضعنا ونعرف الحقيقة كلها، ونكتشف الأخطاء والعيوب ونضع أيدينا على مواطن الداء وأقدامنا على الطريق الصحيح. إننا ننتج ولكن إنتاجنا بهذا الأسلوب وهذا الحجم وهذه النوعية لا يمكن أن يحقق معدلات التنمية المطلوبة حتى لمجرد مواجهة المشكلة الاقتصادية الحادة والزيادة السكانية الرهيبة ولا نقول رفع مستوى المعيشة وجودة الحياة. إننا نبنى ولكن بمعدل متواضع لا يتناسب مع رقم العصر وليس هو بالمعدل الذى يجعلنا نخرج من الأزمة الطاحنة.
إن هناك رئيسا وإهمالا لا بد أن ينتهي، وسياسات لا بد أن تتغير، فلا ينبغى أن يكون هناك موظف بلا عمل ولا رئيس بغير مسئولية ولا حقوق ضائعة ولا واجبات مهملة. لا ينبغى أن تكون هناك قيادة منحرفة أو مستغلة أو مرتشية أو غير مؤهلة موجودة فى عملها.
كل ذلك يستوجب حركة جذرية تتناول المجتمع بأسره وتجعله يعمل بإصرار نحو تجديد قواه واحترام قيمة العمل. إن إعادة البناء فى أدنى حدودها تقتدى التصدى لتصفية التخلف والجمود. تقتدى التصدى بكل حزم للأخطاء والتجاوزات والتناقضات الموجودة فى المجتمع، تقتدى سرعة اتخاذ إجراءات إصلاح الجهاز الإدارى ونسف كل السياسات والقوانين التى لا تستقيم مع ظروف المجتمع وعلاقات القوة الاجتماعية الموجودة التى وصلت لهذا المستوى من الإخلال بخفة بالتناسب الضرورى للمنظومة التى تحكم سير العمل وتسير النظام وتنظم العلاقات بين العاملين داخل الجهاز الإدارى للدولة حتى نستطيع أن نحسم الخيارات الكبرى المطروحة على المجتمع ككل وعلى طبقاته كلها طبقة طبقة بالقدر الذى يجعلها عملية اقتصادية واجتماعية وسياسية تعمل على تغيير الظروف المادية والمعنوية التى تعوق التنمية وتحل التناقضات فى السياسات وترتب العلاقات وتعيد التوازن بين القوة الاجتماعية والإنتاجية فى المجتمع.
ولكل هذه الاعتبارات بات من الضرورى سرعة إنجاز قانون الخدمة المدنية من خلال منظور علمى محدد حتى لا يبتعد عن الهدف المحدد له وينحرف لإرضاء فئة من العاملين أو تيار سياسى أو اجتماعى ولا يفلت الزمام من بين ربانينا ونصبح كمن أراد أن يبتلع الحوت فوجد نفسه فى بطنه.