إذا كنت متابعا للمشهد العام، بقدر من الموضوعية المجردة عن الأهواء الشخصية، سوف تصل لقناعة لا تقبل الشك بأننا جميعا أمام مشهد عبثى بلا ملامح، وإن شئنا الدقة هو يشبه فى تعقيداته لوحة سريالية عصية على الفهم.
أتحدث عن الشجار المشتعل بين أطراف متنوعة على مواقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك تويتر»، حول دعوات الحشد والاستعداد لـ«٢٥ يناير»، دون دراية بعواقب ما يريدون فعله، أو ادراك للحقائق التاريخية وهى أن الثورات تندلع لأجل البناء والاصلاح وليس للتخريب الذى يقود للفوضى.
ما يرمون إليه من استعدادات به إشارة واضحة تحمل معانى الاستهتار بالشعب وإعلان الوصاية عليه، وتثبت أنهم مهووسون بالشهرة، بالضبط مثل نخبة الخيبة القوية التى ابتلينا بها، ممن يرتدون دوما ثياب المعارضة، باعتبار أن المعارضة تعبير عن الوطنية، وإن لم تكن معارضا فأنت «بتاع» الدولة من وجهة نظرهم.
من دواعى العجب فى الأمر برمته أن بعضا من هؤلاء «المهاويس» ينتمون حسب المفهوم الدارج إلى النخبة، بما يعنى أن لديهم معرفة تامة بكل ما يحاك ضد هذا البلد من مؤامرات ويدركون المخاطر الناجمة عنها، لكنهم يريدون الظهور فى المشهد الصاخب للحصول على لقب «ثورى».
هذه الدعوات أصبحت هزلية من كثرة ترديدها وتكرارها بمناسبة وبدون مناسبة، فضلا عن أنها، وهذا هو الأهم، تصدر عن فئة مريضة بالتظاهر، كما أنها لا تحمل أى رؤية أو هدف يمكن الالتفاف حوله.
لو أن هؤلاء وغيرهم يدركون تداعيات ما يروجون له، لتوقفوا على الفور عن ترديد تلك الدعوات المهيئة للفوضى والخراب، خاصة إذا علمنا أن الحشد للتظاهرات التى أعقبت زوال حكم مبارك كان كارثيا وسببا رئيسيا فى تردى الأوضاع الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، جراء المطالب الفئوية التى أنهكت خزينة الدولة وبددت الاحتياطى النقدى وخلقت شلة من المنتفعين على حساب استقرار البلد.
الغريب أنهم يتحدثون عن الديمقراطية ويرفضون فى ذات الوقت ما تأتى به العملية الديمقراطية، يروجون لشعارات تطالب بالحرية، لكن شريطة أن تكون الحرية على هواهم، فاختلطت المفاهيم ولم تعد لديهم فروق واضحة بين الأشياء، جراء تنامى همجية الإعلام وفوضوية النخبة الباحثة عن دور يضعها فى صدارة المشهد، إلى جانب تراكم الأخطاء الناتجة عن فشل الحكومات المتعاقبة فى تلبية الاحتياجات، أما الأخطر فهو نشوء فاشية تسعى لفرض سطوتها على المجتمع والدولة.
الفاشيون الجدد راحوا يمارسون أبشع أساليب الديكتاتورية على الفيسبوك عبر اتهام سلطات الدولة بالقمع وإعلان رفضهم لكل ما يحدث من إجراءات ضد الإرهابيين، دون دراية بالفروق الجوهرية بين حرية الرأى وإثارة الفوضى وارتكاب الجرائم الإرهابية، يتحدثون عن حقوق الإنسان فى إغفال تام لشهداء الجيش والشرطة، وكأن هؤلاء الذين يؤدون الواجب الوطنى بلا حقوق.
إن أفراد هذه الفئة المارقة عن الصف الوطنى، يظنون أنهم احتكروا الحقيقة والرؤية الصائبة ولهم وحدهم دون غيرهم الحق فى توجيه سياسة الدولة والإبقاء على النظام الحاكم أو المطالبة برحيله، يفعلون ذلك دون امتلاكهم لأى مقومات حقيقية تجعلنا ننحاز إليهم ولرغباتهم ونتغاضى عن الاستعلاء البغيض الذى يمارسونه. لذا لم يكن غريبا ألا نرى منهم سوى دعواتهم الدائمة للخراب تحت مسميات ومزاعم متنوعة، أما هدفها الحقيقى فهو إثارة الفوضى تحت لافتة الحقوق المشروعة التى أدت للخروج فى ٢٥ يناير، دون دراية بعواقب ما يريدون فعله، أو إدراك أن الثورات تندلع لأجل البناء والإصلاح وليس التخريب الذى يقود للفوضى. هذه الفئة المهووسة برفض كل شىء تحت لافتة التغيير، اتخذت مواقع التواصل الاجتماعى منابر للنضال والتحريض تماشيا مع أسلوب جماعة الإخوان التى تريد الانقضاض على الدولة وتوظيف قدراتها لصالح تنظيمهم، الذى خرجت منه كافة الجماعات والحركات المتطرفة والإرهابية.
فى هذا الإطار لا يمكن إغفال تورط الدولة بكل مؤسساتها فى هذا العبث، باتباعها لأساليب المواءمة وامتصاص الغضب وإهدار أحكام القضاء عبر الوعود بالإفراج عن بعض المحكوم عليهم فى قضايا جنائية بدعوى أنهم ثوريون، وكأن الفعل الثورى أصبح حصريا لهؤلاء.. ألم يكن هذا قمة العبث باستقرار الدولة؟ مع العلم بأن سلطات الدولة ذاتها تورطت فى الأمر، عبر تدليلها لهؤلاء، سواء بالحديث الدائم عن دورهم فى البناء والتنمية والنهوض وغير ذلك من المصطلحات أو المسميات المستهلكة، ووضعهم فى وظائف مهمة، دون الأخذ فى الاعتبار أن هناك فئات أخرى أولى منهم بالاهتمام والرعاية وأقصد حملة الماجستير والدكتوراه. ما تفعله الحكومة معهم صار نوعا من المغازلة الرخيصة التى تشبه مداعبة مشاعر غانية لعوب تتدلل من كثرة المديح فى مفاتنها، من شدة «السماجة» فى تكرار الدعوات المنطلقة تحت مسميات مختلفة، صار الأمر على الأقل بالنسبة لى، أشبه بنكتة سخيفة مملة، فضلا عن أنها تثير الاشمئزاز من أصحاب الدعاوى الذين يتصورون فى أنفسهم القدرة على قيادة عمليات الفوضى أو إشعال ثورة جديدة من وجهة نظرهم لاستكمال مطالب الأولى، فى هذا السياق لا أملك سوى أن أتعجب كثيرا من آراء جنرالات الفيسبوك ومن قدرتهم الفائقة على «السفسطة» فى سرد تصوراتهم الوهمية، البعيدة كل البعد عن أى قراءة موضوعية لما يحيط بالدولة من مخاطر، لا يمكن لهم أو لغيرهم إقصاء تلك المخاطر بعيدا عن مطالبهم ودعواتهم التى تهدف إلى إسقاط الدولة، وهنا أستطيع القول إننى أتهم صراحة دعاة الفوضى بأنهم ينفذون أجندات تصب فى صالح المخططات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية التى مولت فى السابق بعض العناصر وقامت بتدريبها، وساهمت كما ساهم الفوضويون فى المجىء بالإخوان إلى سدة حكم مصر.