اقترب «مولد سيدى ميدان التحرير» المعروف مجازًا بذكرى ٢٥ يناير، الحائرة على الأقل بالنسبة لى فى وصفها بين الثورة والمؤامرة، ومع اقتراب الاحتفال بالمناسبة استعد الدراويش، لإقامة حلقات الذكر والتبارى فى الإنشاد بكرامات صاحب المولد ومناقبه.
اللافت للانتباه أن الاستعداد للاحتفال بدأ مبكرًا عبر الدعوات «الفيسبوكية» والظهور الفضائى لبعض المحسوبين على فئة تطلق على نفسها اسم «ثوار»، بهدف الحث على المشاركة، وفى سياق توجيه الدعوات يتم استثمار الوقت المخصص لاستضافتهم فى تسويق أنفسهم، عبر التباهى بإنجازاتهم وبطولاتهم التى أطاحت بنظام حسنى مبارك، رغم أن الكثيرين منهم كانوا مجرد مارة عابرين فى الطريق، لا يعرفون شيئا عن حقيقة ما كان يجرى فى الكواليس من ترتيبات ومؤامرات لإسقاط الدولة تحت لافتة الثورة، لكن الأحداث حققت لهم شهوة الظهور فى المشهد الصاخب.
البطولات الوهمية التى تتبارى بها الشخصيات المغمورة ليل نهار على الشاشات الفضائية، حفزت ذاكرتى على استرجاع أيام الصبا فى بواكير العمر، ففى تلك الأيام البعيدة كنت شغوفًا بسماع الكثير من الحكايات والأساطير التى يرويها الشيوخ والعجائز فى بلدتى القابعة فى الصعيد الجوانى، عن البطولات الحقيقية والأخرى الوهمية المشحونة بالادعاءات، من بينها ما كان منسوبًا لشخص اسمه «مفلفل».
لا أعرف ما إذا كانت الحكايات المنسوبة للرجل حدثت فعلا أم إنها مجرد روايات وقصص ساخرة نسجت حوله، لكن كل ما أعرفه أن «مفلفل» هو شخصية حقيقية من دم ولحم، بسيط فى حاله وحياته، كان الرجل يعيش على أطراف بلدة تحمل الآن لقب مدينة، اسمها «الوقف» وهى لم تبق على حالها «قرية»، ولم تصبح مدينة مثل بقية المدن التى نزورها ونراها.
«مفلفل» يشبه المئات من البسطاء، سواء فى بلدتى أو غيرها من القرى المتناثرة فى بر مصر، نسجت حول الرجل رغم بساطته مئات القصص والروايات، ورغم أنها جميعا كانت تروى حسب ظنى على سبيل المزاح والسخرية إلا أنها كانت تحمل بعدًا فلسفيا له دلالات عميقة.
فكان يقال إنه «غاوى» ظهور، ويريد أن ينظر إليه أهل بيته وجيرانه من البسطاء على أنه «فتوة» وابن ليل، لكى ينال توقيرهم واكتساب مكانة بينهم، ودافعه فى ذلك أن الوجهاء فى تلك الأزمنة من الشخصيات المنتمية لفئة القتلة وأولاد الليل ومرتادى «الغرز»، فعندما يسمع أن اللصوص تسللوا ليلا لأحد بيوت القرية وسرقوا بعض أجولة الغلال، يسعى هو حسب الروايات بكل الوسائل لأن يثير الشكوك حول نفسه، فيقوم بنثر كمية صغيرة من بذور الغلال فى الطريق المؤدى لبيته، وعندما يسأل عن تلك الغلال، يهز رقبته بابتسامة تشير إلى واقعة السرقة، وتوحى فى نفس الوقت أنه الفاعل.
الفتوة فى نظر الأهالى حامى الديار أيضا لأنه ابن ليل، لذا لا يجرؤ اللصوص على الاقتراب من المنطقة التى يسكن فيها من ينتمى لهذه الفئة، فهذا فى عرفهم ممنوع، أما الروايات المنسوجة عن الرجل الذى يتباهى بأنه ابن ليل، فكان يتغيير موقفه إلى النقيض خاصة عندما يقترب اللصوص من المنطقة التى يقيم بها، حيث تلاحقهم الكلاب بالنباح ويستيقظ الجيران على العواء، أما هو فيصحو من نومه فى الصباح، ويلوم جيرانه على أنهم ظلوا الليل خائفين، فكيف يشعرون بالخوف وهو بينهم، لأن اللصوص لا يستطيعون الاقتراب، فنباح الكلاب كان بسبب مرورهم من منطقة قريبة ولم يقصدوا جيرانه تقديرا له.
أما الروايات التى نسجت عن محاولاته إضفاء الأهمية على شخصه، فحدث عنها ولا حرج فهى كثيرة، منها إذا أرسلته زوجته لشراء شىء ما من السوق، يتأخر كثيرا رغم أنه لا يذهب إلى سوق القرية، فقد كان يدفعه فضوله للمرور أمام مصطبة شيخ البلد، لـ«الفرجة» على مشكلات وخناقات الأهالى المعروضة على شيخ البلد وكبار العائلات، «مفلفل» كان يقف على حافة المشهد، مثل هذه الخناقات تحيط بها زفة، حيث يقف مناصرو طرفا المشكلة، وكان الشد والجذب يطيل فترة الحسم وإنهاء المشكلة، وعندما يعود لزوجته تسأله عن سر تأخيره رغم قصر المسافة، فكان يرد أنه كان مع الشيخ ومجموعة من كبار البلدة، وتعبوا إلى أن أنهوا مشكلة فلان مع علان، بما يوحى أنه كان شريكًا فى الحل، بالضبط مثل الكثيرين فى زماننا ممن وقفوا على هامش الصخب وادعوا أنهم أسقطوا مبارك وأنهم أصحاب الثورة، فضلا عن الكثير من الأمور الأخرى، التى تهدف لتحقيق مكاسب ذاتية فى موسم توزيع الصكوك والمغانم.
يعرف العجائز والشيوخ من أبناء الريف على اتساعه من الشمال إلى الجنوب، قيمة المعنى وعمق المغزى من تلك الروايات، لذا يتداولونها فى أوساطهم، فالمعنى المقصود من نسج الحكايات عن «مفلفل» الرجل البسيط، هو الرغبة فى الحصول على لقب «الفتوة» لما له من هيبة وشمخة.
فضلا عن أن ما يقوله «الفتوة» فى مجالس الرجال يبقى عين العقل، ولازم يمشى على الكبير والصغير، وكل الويل لمن يعترض أو يقول رأيًا يخالف رأيه. الفضائيون والإلكترونيون ساروا على درب «مفلفل» فصاروا «مفلفلين» منحوا أنفسهم ألقابا من عينة، ناشط ثورى منسق الائتلاف الفلانى المتحدث باسم الحركة العلانية، رغم علمهم أن الرأى العام بكل شرائحه، يعرف أن من بينهم «هبيشة وقفيشة»، لكنهم يتنصلون من رموزهم فور اكتشاف أمرهم مؤكدين أن هؤلاء لا يعبرون عن الثورة، وتارة أخرى يقولون أنهم رموز الثورة، يعنى حسب الموقف.
إذا كانت القصص التى رويت عن تلك الشخصية تدخل فى نطاق الأساطير المعبرة عن أمور معينة، فإن شخصية «مفلفل» الحقيقية أنقى من الداعين للاحتفال بموالد الفوضى.