بينما تئن البلاد من مشكلات مزمنة باتت تهدد عقيدتها ومستقبلها ومصير شعبها، نجد الساسة على الجانب الآخر منشغلين بتوزيع الأدوار وترتيب المواقع فى البرلمان، ويتصارعون فيما بينهم على تقسيم مراكز السلطة وأدوات توجيه صناعة القرار، بداية من محاولات الاستحواذ على الأغلبية تحت مسمى «ائتلاف»، وليس نهاية بترسيخ مفاهيم الوصاية والترويج لاحتكار الوطنية ومنح صكوكها لفئة ومنعها عن الأخرى، الغريب فى الأمر أن المعارك تدور دون تقديم رؤى أو تصورات للاشتباك مع القضايا الجوهرية.
ما يجرى على الساحة يذكرنا، بالطبع مع الفارق، بما كانت تفعله التيارات الظلامية مع خصومها، فهنا احتكار للوطنية وهناك احتكار للدين.. هنا الحديث باسم الدولة.. وهناك الحديث باسم الله.. هنا إن كنت معنا فأنت وطنى.. وهناك إن لم تكن معنا فأنت كافر.. وفى الحالتين تكمن الرغبة الحقيقية فى الاستحواذ على السلطة، تارة باسم الوطنية وتارة أخرى باسم الدين. بعيدا عن الدخول فى التفاصيل الجانبية للصراع على الوجاهة السياسية، هناك قضية أكثر أهمية.. لم تكن ضمن أولويات النخبة الجديدة، رغم أنها معركة وطن بأكمله وتحتاج إلى تكاتف كل الجهود لأنها الأكثر إلحاحا، فى ظل الظروف المرتبكة التى تمر بها المنطقة وعلى رأسها مصر، لأنها تخوض حربا ضد الارهاب الناشئ عن التطرف الدينى. شئنا أم أبينا، وهذه هى الحقيقة الراسخة فى أذهان الكثيرين، سيظل الأزهرـ كمؤسسة متهما بالمسئولية المباشرة من الناحيتين التاريخية والدينية، أما السبب فهو التغاضى عن انتشار الأفكار الشاذة والمناهج الضالة والفتاوى المضللة، التى ساهمت بصورة أو بأخرى فى صناعة عناصر إرهابية راحت تشوه صورة المسلمين، ولا أقول الإسلام، فهو أسمى قيمة وأرفع مكانة من التعرض لمحاولات التشويه. الاتهامات- أؤكد الاتهامات- الموجهة للأزهر لم تأت من فراغ، لكنها قائمة على حزمة من الأسباب الموضوعية، منها عدم اتخاذ مشايخه أى خطوات جادة وعملية نحو إصلاح المناهج الدراسية لطلابه، رغم تراكم الدعوات التى تحث على هذا الأمر، فضلا عن العجز البين وعدم القدرة على التصدى أو مواجهة نزيف مزادات فتاوى التكفير وإهدار الدماء. أما الأكثر لفتا للانتباه فهو عدم الإقدام من جانب قيادات الأزهر وعلمائه، على تنقية كتب ومراجع التراث الدينى والفقهى المشحونة بالجمود والفتاوى التى كانت تلائم زمنها، بهدف استبعاد ما لا يتسق مع العقل والمنطق ويجافى مستحدثات العصر، من خلال العلماء المتخصصين فى العلوم الدينية على اختلاف فروعها. فالتراث الذى نتحدث عنه يتضمن الكثير من المغالطات والمفاهيم الظلامية، التى أصبحت مرجعية انطلقت وما زالت تنطلق منها الدعوات الرامية للتطرف والتكفير وارتكاب جرائم الإرهاب تحت دعاوى الجهاد مع العمل على استثمار تلك الأفكار الشاذة فى تغييب العقول. عدم اقتحام الأزهر هذه المشكلة بجرأة، فتح المجال واسعا أمام غير المتخصصين مثل شيوخ السلفية الذين يملأون الدنيا ضجيجا بالفتاوى والخزعبلات، ومعهم أمراء التطرف والتكفيريون، لانتقاء كل ما يوصف بالعورات ويحد من الحريات ويتنافى مع معطيات العصر واتخذوها مسلمات يقينية، اعتبروا المساس بها كفرا صريحا وخروجا عن الملة والعقيدة. فهل نحن فى حاجة لحث قيادات ومشايخ الأزهر على البدء فى خطوات حقيقية لتجديد الخطاب الدينى لإنهاء تلك المهازل؟. توقفت كثيرا أمام كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى أثناء الاحتفال بذكرى مولد النبى الكريم «ص»، خاصة عندما تطرق فى حديثه للدعاة المنوط بهم إرساء قواعد التنوير للمجتمع عن هذه القضية التى طالب باقتحامها أكثر من مرة. عقب إلقائه كلمته أشفقت على الرئيس لفرط شفافيته ورغبته فى التنوير ودحر الظلاميين، وكدت أقول له «لقد أسمعت لو ناديت حيًا.. ولكن لا حياة لمن تنادى». ودافعى فى ذلك أن بين الذين يخاطبهم، من ليسوا تنويريين بالمرة بفعل تغلغل الثقافة الجامدة عبر عشرات السنين، كما أن التباطؤ من جانبهم فى تنقية التراث الدينى يصل إلى حد التواظؤ، والأسباب لم تعد خافية على أحد سواء كان مهموما أو غير معنىّ، فى مقدمتها عدم جرأة الشيوخ فى إصدار بيان لإدانة داعش والتنظيمات الإرهابية بصورة واضحة وجلية، وهذه الأسباب وحدها هى التى تحرض على توجيه الاتهامات لشيوخ الأزهر، بالانصياع لرؤى السلفيين والمنتمين لجماعة الإخوان، باعتبارهم القوى المؤثرة فى توجهاته، فضلا عن الدور الغامض الذى يلعبونه فى الكواليس لترسيخ الأفكار الموبوءة.
إن تجديد الخطاب الدينى يحتاج لعلماء قادرين على خوض معركة التنوير، والانحياز للعقل فى مواجهة التكفير والظلام، علماء قادرين على دحر دعاة العودة إلى عصور الجهل والتخلف. أعلم كما يعلم كثيرون غيرى أنها قضية شائكة بفعل التأثر بالموروثات المغلوطة، لكنها تحتاج للتدخل الجراحى العاجل قبل أن تتسع مساحة البلاء عبر شيوخ ودعاة احتكروا –بفجاجة وبجاحة - الحقوق الحصرية لجوانب المعرفة، وراحوا يكفرون الخصوم فى خلط بغيض للدين بالسياسة. رغم تلك القناعات أدرك حجم الصدام الحتمى مع أصحاب العقليات البيروقراطية المتبلدة والمتصلبة التى تعرقل محاولات التجديد. ما بين استخدام العقل فى التفكير ومحاولات إلغاء دوره؛ ليصبح مجرد وعاء مشحون بالموروثات والأفكار الشاذة، لا يمكن إغفال الحقيقة الثابتة؛ أن الأزهر هو الملاذ باعتباره الجهة الوحيدة المعنية بإزالة المخاوف من فوضى الفتاوى، إن كان لدى شيوخه إرادة حقيقية وليس رغبات تأتى فى عبارات إنشائية يتم ترديدها فى المناسبات، فهل ستتوافر تلك الإرادة فى ظل سيطرة بعض الشيوخ الذين يتعاملون مع كل ما جاء فى التراث على أنه مسلمات لا يجوز البحث أو التفكير فيها أو الاقتراب منها؟.