الأحد 29 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"حجازي" كليم المساء والمتمرد على التاريخ العربي


    الشاعر الكبير
الشاعر الكبير : أحمد عبد المعطي حجازي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لاريب في أن “,”حجازي“,” ليس ذلك النبي الذي تسقط عليه الكلمات من السماء وحيا فيتيه بها فخرا، إنما هو شخص عادي، يصارع المدينة الظالمة القاسية ؛التي ترفض فتح أبوابها أمامه ،ف “,”حجازي“,” هو الغريب ،وبائع الليمون ،والفتى الذي يكلم المساء ،“,” حجازي“,” الشاعر الذي تمرد على كل التاريخ العربي السابق، حينما قال: “,”لن أخاطب ذلك الجالس في القصر بعد الآن، قصائدي ليست له، كلماتي لكائنات مملكة الليل: الصعاليك والمهمشين وأولئك الذين انكسرت قلوبهم“,” .

“,”حجازي“,” قاهر الكلاسيكية والنمطية في الشعر العربي

حجازي الذي جاء ديوانه الأول 'مدينة بلا قلب' ليثير شيئا أشبه بالعاصفة في عالم القصيدة العربية، لم يكن موقفا مختلفا ومغايرا في فنيات الشعر وجمالياته فحسب ؛وإنما أيضا في رؤية الشاعر ، وملقيا ب حجر في مياه الشعر الراكدة، والتي اتسمت بالكلاسيكية و النمطية في تلك الفترة.

بعد كل تلك السنوات ،وبعد هذا الصراع الطويل ،حجازي قد اقترب من الثمانين ، ومدينته لم تعد قاسية وباردة كما كانت قبلا ، كلاهما هده الحزن، غير أن القلب مازال مشتعلا بالرفض والغضب والحب .

هناك ركائز أساسية في الشعر العربي وهي الموسيقي، اللغة، الخيال، والمعني، وهي الركائز التي اعتمدت عليها كل مراحل الشعر العربي، وحافظت عليها؛ مع التغير في شكلها ومضمونها ، ففي شعر “,”حجازي“,” يبرز المعني كركيزة أولي، “,”حجازي“,” هو شاعر الشعراء في الصيغة الشعرية التي لا نجدها إلا عنده



“,” حجازي“,” يحقق بحرية الإبداع إبداع الحرية

“,”حجازي“,” الذي رأى “,”محمود أمين العالم“,” أن الشعر عنده هو بنية فنية محتشدة بالحماس والتدفق الانفعالي للبلاغة الشكلية واللغوية ؛يغلب عليها طابع الحكي، والطابع التاريخي .

و“,”حجازي“,” بالنسبة لـ“,” لعالم“,” لا يبحث عن تكامل لرصيد معرفي بقدر ما يسعي لاختراق لكل ما هو قائم وما كان ينبغي أن يقوم، وأن تجربته الشعرية تمتلئ بالدلالات المحرضة والفعالة، وتتسم شعريته بالتعبير بالصور، فهو يفكر شعريا ويعبر عن المشاعر بالصورة، فهو يحول المجردات إلى محسوسات .

ويظهر دوما في شعر “,”حجازي“,” الظل الشكلي للتراث، ومع ذلك تتجلى حركة الإبداع في التصوير واللغة لاقتحام ما هو أعمق، وما هو أكثر استنارة، متواصلا مع ذاتيتنا وانسانيتنا، فما تظهره تجربة “,”حجازي“,” الشعرية بإيجاز يتجلى في أن حرية الإبداع تحقق لنا إبداع الحرية .



“,”حجازي“,” يريد بالشعر تحقيق المستحيل





أما الشاعر “,”حسن طلب “,” فيرى أن شعر حجازي ينحو إلى غربة، ليست غربة في المكان بل غربة في الزمن، و الزمن الذي يقصده “,”طلب“,” ليس زمنا معدودا وكميا، وليس الزمن المنصوص في التراث المعدود والمقدر، بل هو الزمن المفقود، ولهذا يرى “,”طلب “,” أن اتصال “,”حجازي“,” بالتراث المتمثل في اللغة لا يهدف إلى نفس الاستخدام التراثي للزمن .

كما يري “,”طلب“,” أن شعر “,”حجازي“,” يرتبط بالوجود وليس بقومية ؛رغم تغنيه بالعروبة في البدايات فشعر “,”حجازي“,” يخاطب عقول البشر أجمعين. لأنه يريد بالشعر تحقيق المستحيل، مثل الشعراء المجيدين.

“,”حجازي“,” والبدايات

يعد حجازي أحد رواد تجديد الشعر العربي، في خمسينات القرن الماضي، المولود في عام 1935 بـ“,”تلا“,” محافظة المنوفية، وقد تمكن من حفظ القرآن الكريم في صغره، و التحق بمدرسة “,”المعلمين“,” بشبين الكوم في عام 1948، و تدرج في مراحل التعليم حتي حصل على دبلوم “,”دار المعلم“,” عام 1950 .



بدأ “,”حجازي“,” ال عمل في الصحافة ابتداء من عام 1956 بـ“,”مجلة صباح الخير“,”، بعدها سافر إلي دمشق بعد إعلان الوحدة العربية، وعمل في الصحافة هناك لمدة ستة أشهر بين أبريل عام 1959 - سبتمبر عام 1959، كما التحق بمجلة “,”روز اليوسف“,” ،وعمل محرراً بها ، ثم رئيساً للقسم الثقافي عام 1965، وفي عام 1969 أصبح مديرا للتحرير ،صدر بشأنه قراراً بالفصل، ضمن قائمة تضمنت 180 صحفياً، أصدرها الرئيس الراحل “,”محمد أنور السادات“,”؛ ليعود بعد ذلك في أواخر سبتمبر 1973 إلي “,”روز اليوسف“,”.

سافر “,”حجازي“,” إلي فرنسا عام 1974، و استقر بها، بعد أن تم فصله مرةً أخرى؛ نتيجة توقيعه لبيان يدين اصطدام حكومة السادات مع عمال “,”حلوان“,” و اعتقال و سجن 800 عامل، و عمل بعد ذلك مُدرساً للشعر العربي في جامعتي “,”باريس و السوربون“,” بفرنسا، قبل أن يلتحق بالدراسات العليا و يحصل على الدبلوم في عام 1979، و قد حصل “,”حجازي“,” على دبلوم الدراسات المُعمقة في الأدب العربي عام 1980، ثم راح يكتب مقالاتٍ ثقافيةٍ بمجلـة “,”المصور“,” لمدة ستة أشهر، و يُعين بعدها كاتباً ثابتاً بجريدة “,”الأهرام“,” اليومية عام 1990، و يتولى الآن رئاسة تحرير مجلة “,”إبداع“,” الفصلية منذ أواخر عام 1990.

قالت عنه لجنة تحكيم مؤسسة “,”سلطان بن على العويس“,” الثقافية : يعد أحمد عبد المعطي حجازي في طليعة شعراء المدرسة الحديثة في الشعر العربي، ومن الرواد في حمل لوائها، وله تجربة شعرية طويلة واكبت مختلف التحولات التي عرفتها القصيدة العربية الحديثة، فتطورت من بنية ورؤية واقعة ملتزمة إلى بنية تتنامى، وتتعمق فيها القيمة الجمالية واستبطان التجربة الذاتية، مما أضفى عليها خصوصية مميزة؛ دون أن يحد ذلك من القدرة على التوصيل.

“,”حجازي“,” أعمال خالدة

من أهم دواوينه: “,”مدينة بلا قلب“,” عام 1959، “,”لم يبق إلا الاعتراف “,”1965 عام، “,”مرثية العمر الجميل“,” عام 1972، “,”كائنات مملكة الليل“,” عام 1978، “,”أشجار الاسمنت“,” عام 1989، “,”مرثية لاعب سيرك“,” عام 2000، و “,”طلل الوقت“,” عام 2011.

أما عن أعماله النقدية؛ فلم يكتف “,”حجازي“,” بكتابة الشعر فقط ؛ بل امتد نشاطه ليشمل الحركة النقدية، وأصدر مجموعة من الكتب النقدية و الفكرية أهمها : “,”محمد و هؤلاء“,” عام 1971، مختارات من شعر إبراهيم ناجي وخليل مطران 1972 عام ، “,” عروبة مصر“,” عام 1977، “,” حديث الثلاثاء “,” “,”جزآن“,”، “,” الشعر رفيقي “,” عام 1990، “,” أسئلة الشعر“,” عام 1991، “,” أحفاد شوقي“,” عام 1992، “,”قصيدة لا“,” عام 1993، “,”علموا أولادكم الشعر“,” عام 1995، “,” شجرة حياة “,” عام 1996، “,”قال الراوي“,” عام 1997، “,”نعم لفولتير لا لبونابرت“,” عام 1998، “,”في مملكة الشعر“,” عام 1999، “,”مدينة النور“,” عام 2000، “,”قصيدة النثر“,” أو “,”القصيدة الخرساء“,” عام 2008، “,”بابل الشعر“,” عام 2011.

و قد حصل “,”حجازي“,” على العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة منها : جائزة “,”كفافيس“,” في الشعر عام 1989، و جائزة الشعر الافريقي عام 1996، و جائزة مؤسسة “,”سلطان بن على العويس“,” الثقافية في دورتها الخامسة من 1996-1997، و أخيراً جائزة “,”النيل“,” الكبرى في الآداب عام 2013.



نماذج من شعر حجازي



ياهواى عليك يا محمد





إن كنت سليما حتي الآن



فاضرب !



اضرب ! يا ذا القلب النشوان



والوجه المتعب



انفض عن قلبك دهشته الأولى



وبراءته المستهولة الإنسان الغولا



وخض النيران





« يا هواي عليك يا محمد



يا هواي عليك ! »



ومحمد أقرب إخوتي لقلبي



وصديقي



ورفيق طريقي



كنا أخوين



فأصبحنا من بعد وفاة أبينا



طفلين وأبوين !



نتلاقى تحت غبار السعي بوجه صارم



فإذا أبنا لمراقدنا









أوحش كلا منا الآخر



حتي يتمنى أن يلقاه ،



وقد فارقه من ساعة



وكأن الواحد منا إذ ترك أخاه ،



أضاعه



يستسلم كل منا لبكاء عذب مقهور



يغسلنا من آثام رجولتنا المثقلة بغير أوان



ويعيد لنا عهد صبانا الزاهي المبتور !



ومحمد أذكره طفلا غضبان جميلا



طفلا يلقي عالمه بطهارة قلب متلهب



يسأله أن يصبح بيتا مأهولا



أفقا مغسولا



يسألنا ألا ننساه



ألا نلقاه بوجه متقلب



يسألنا ألا .. نكذب !



في هذا العالم يا ولدي



في السوق المائج بالعجزة والجهلة



بالمقتولين وبالقتلة



نغرق في الكذب وفي التضليل



كي نحفظ مما بقى لنا .. هذا الرمقا



فأرفع يا ولدي أنت سلاح الحق ،



لكي تحمي هذا الخقا



أرنا الصدق المضطهد، وقد سلح نفسه



ومشى مدرعا



ممتطيا فرسه



بين هتافات المظلومين !



ومحمد ! أجمل ما أعطي الحب العاجز



ما بين الرغبة والحرمان



أشهد وجهه



ما بين الذكري والنسيان



أشهد وجهه



بين صباه ، وضياع صباه



أشهد وجهه



في الموسيقي أشهد وجهه



إذ يهرب أعذب ما فيها من ألحان



وتظل تحن تحن له الآذان



أشهد وجهه



في الأسرة، إذ يجتمع لها الشمل المفقود



في صبح العيد



ويشق تعاسة أوجهنا



هذا الفرح الباكي المولود



أشهد وجهه



في الليل الممتد السهران



يشرد فيه حتى يتعب



ويعود لنا



وهنالك شيء في عينيه



في شفتيه .. يتعذب



شيء ! لا أدري كيف تحمل فيه الكتمان



حتي وهو يغني ، ويحب ، ويشرب





فاضرب !



أفصح عن هذا الشيء الآن



استجمع أحزانك واضرب



استنهض قلبك في يدك .. وصوب





اضرب !



بخروجك ذات صباح مبتسما للديان



تسأله يوما مبتسما



وصديقا مبتسما



وفتاة تأخذها في حضن النيل المعشوشب



وتسري عنها الأحزان



فإذا بالغارة والعدوان !





فاضرب !



اضرب بصباك العطشان !



بأخوتنا



بطفولتنا المظلومة !



بأبينا المحتضر الأشيب !



بالدرب الصاعد من منزلنا





حتي الصفصاف الملتف علي وجه الترعة



حيث توضأنا في الظهر وصلينا



وغمسنا في الشمس الملتهبة في الماء



نشوتنا الأولى الخضراء الحمراء !





اضرب !



بتشردنا بين الطرق المسدودة



والأفكار المحمومة



بين الكتب الرائعة المرسومة



أطفالا ، وقلوبا ، وشموسا لا تغرب !





اضرب !



بتغربنا في المدن المتوحشة القذرة



نفقد فيها قريتنا وبراءتنا



حتي نتلاقى ، فنحس بسوأتنا



ونواريها ، بعيون خجلي معتذرة !





اضرب !



بوداعك إيانا . أمي وأنا تحت الشجرة



آخر ما في ذاكرتي عنك



الخوذة ، وثياب الحرب الصفراء



والوجه المستشهد !





« يا هواى عليك يا محمد !



يا هواى عليك يا محمد ! »







محمد عبد المعطي حجازي شقيق الشاعر الذي حارب في سيناء عام 1967



وكانت أمه تدلله وهو طفل فتغني له الأغنية الشعبية الريفية



يا هواي عليك يا محمد …. يا هواي عليك !



ومحمد لابس برمكي …. وأنا قلت له مبارك



أمتي يؤون الأوان …. وأخش دوارك !







سلّة ليمون







سلّة ليمون



تحت شعاع الشمس المسنون



و الولد ينادي بالصوت المحزون



“,” عشرون بقرش



“,” بالقرش الواحد عشرون ! “,”

سلّة ليمون، غادرت القرية في الفجر

كانت حتّى هذا الوقت الملعون ،

خضراء ، منداه بالطلّ

سابحة في أمواج الظلّ

كانت في غفوتها الخضراء عروس الطير

أوّاه !

من روّعها ؟

أيّ يد جاعت ، قطفتها هذا الفجر !

حملتها في غبش الإصباح

لشوارع مختنقات ، مزدحمات ،

أقدام لا تتوقّف ، سيّارات ؟

تمشي بحريق البنزين !

مسكين !

لا أحد يشمّك يا ليمون !

و الشمس تجفف طلّك يا ليمون !

و الولد الأسمر يجري ، لا يلحق بالسيّارات

عشرون بقرش

بالقرش الواحد عشرون ! “,”

سلّة ليمون !

تحت شعاع الشمس المسنون

و قعت فيها عيني ،

فتذكّرت القرية !

أواخر 1957



مرثية للعمر الجميل

في ذكري عبدالناصر

هذه آخر الأرض !

لم يبقَ إلا الفراق

سأسوي هنالك قبرا،

وأجعل شاهده مِزقةَ من لوائكَ،

ثم أقول سلاما !

زمن الغزوات مضى، والرفاق

ذهبوا، ورجعنا يتامى

هل سوي زهرتين أضمهما فوق قبرك،

ثم أمزق عن قدمي الوثاق

إنني قد تبعتك من أولِ الحلمِ،

من أول اليأس حتى نهايتهِ،

ووفيت الذماما

ورحلت وراءك من مستحيل إلى مستحيل

لم أكنْ اشتهي أن أرى لونَ عينيك،

أو أن أميط اللثاما

كنت أمشي وراء دمي

فأرى مدنا تتلألأ مثل البراعم،

حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل

والحصونَ تساقط حولي،

أصرخ في الناس! يوم بيومِ،

وقرطبة الملتقي والعناق

آه! هل يخدع الدمج صاحبه

هل تكون الدماء التي عَشقَتْك حراما !

تلك غرناطة سقطت !

ورأيتكَ تسقط دون جراحِ،

كما يسقط النجم دون احتراق !

فحملتك كالطفل بين يدي وهرولت،

أكرم أيامَنا أن تدوس عليها الخيول

وتسللت عبر المدينةِ حتى وصلت إلى البحر،

كهلا يسير بجثةِ صاحبهِ،

في ختام السباق !



مَن تجري يحمل الآن عبءَ الهزيمةِ فينا

المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسدِ يرتديه

أم هو الملك المدعي أن حلمَ المغني تجسَّد فيه

هل خدعت بملكك حتى حسبتكَ صاحب المنتظرْ

أم خدعت بأغنيتي،

وانتظرت الذي وعدتْكَ به ثم لم تنتصر

أم خدعنا معا بسرابِ الزمان الجميل؟ !

كان بيتي بقرطبة،

والسماء بساط،

وقلبي إبريق خمري،

وبين يدي النجوم

صاح بي صائح: لا تصدٌق !

ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،

باحثا عن قراره صوت قديم

لم أكن بالمصدق، أو بالمكذٌ بِ،

كنت أغني، وكان الندامى

يملؤون السماء رضا وابتساما !

والسماء صحاري،

وظهر مدينتنا صهوة

والطريق

من القدس للقادسية جد طويِل

قلت لي :

كيف نمضي بغير دليل

قلت :

هاكَ المدينةَ تحتكَ،

فانظر وجوهَ سلاطينها الغابرينَ،

معلقة فوق أبوابها، واتقِ الله فينا !

كنت أحلم حينئذي

كنت في قلعة من قلاع المدينةِ ملقي سجينا

كنت أكتب مظلمة،

وأراقب موكبكَ الذهبيْ

فتأخذني نشوة ، وأمزق مظلمتي،

ثم أكتب فيك قصيدة

آه يا سيدي،

كم عشنا إلي زمن يأخذ القلبَ،

قلنا لك أصنْع كما تشتهي،

وأعدْ للمدينة لؤلؤة العدلِ،

لؤلؤةَ المستحيلِ الفريدة

صاح بي صائح لا تبايعْ !

ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،

باحثا عن قرارة صوت قديم !

لم أكن أتحدث عن ملِكي،

كنت أبحث عن رجل،

أخبرَ القلب أن بأمته أوشكت،

كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة،

ليس الذي وَعَدَتنا السماء؟ !

والسماء خلاء

وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تحتَ المجاعة

ويصيحون فَوْق المآذن

أن الحوانيتَ مغلقةْ

وصلاة الجماعة

باطلة، والفرنجة قادمة

فالنجاءَ النجاءْ !

ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها،

وهي تشحب بين يديْ كطفل،

ويختلط الرهَج المتصاعد حول مساجِدها

بالبكاء

وأنا العاشق المستحث قوافيَّ من يوم أن وجلِدْتْ،

واستدارت علي جيدِها وسوسات القلادة

تهت فيها، وضاع دليلي

يا تجري هل هو الموت؟

هل هو ميلادها الحق؟

من يستطيع الشهادة

أنا لا !

لم أكن شاهدا أبدا

إنني قاتل أو قتيل !

محتج عشرين موتا،

وأهلكت عشرين عمرا،

وآخيت روح الفصول

تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي،

فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة

صاح بي صائح: أنج أنتَ !

ولكنني كنت في دمِ قرطبة أتمزقْ

عبرَ المخاض الأليم

كنت أضرب أوتار قيثارتي،

باحثا عن قِرارة صوتي قديم

صِحْتَ بي أنتَ ..

هل كنتَ أنت؟ !

آه! لا تسألوني جوابا،

أنا لم أكن شاهدا أبدا

إنني قاتل أو قتيل

وأنا طالب الدمِ،

طالب لؤلؤةِ المستحيل

كان بيتي بقرطبة

بِعت قيثارتي، ثم جزت المضيق

قاصدا مكة، والطريق

رائِع.. كنت وحدي وكانت بلاد دليلي

وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلال

وينير سبيلي

ويوقف خيل الفرنجِة

يمسخها شجرا أخضرا في التلال !

إنني أحلم الآنَ .

بيتي، كان بغرناطة

بعت قيثارتي، واشتريت طعاما

ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها،

جعت فيها

وانضممت لطائفة الفقراء بها،

واتخذت إماما

هل هو الوحي؟

أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة .

هل أمرنا بأن نرفَع السيفَ؟

أم نعطَي الخدْ؟

هل نغصب الملكَ؟ أم نتفرق في الصحراء؟ !

ولقيتك، أنتَ الذي قلت لي :

عد لغرناطة، وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني،

وأحيِ العقيدة !

إنني أحلم الآنَ .

لم تأتِ

بل جاء جيش الفرنجةِ

فاحتملونا إلى البحر نبكي على الملك .

لا، لست أبكي على الملك،

لكنْ على عمر ضائعي لم يكن غيرَ وهمي جميل !

فوداعا هنا يا أميري !

آن لي أن أعودَ لقيثارتي،

وأواصل ملحمتي وعبوري

تلك غرناطة تختفي

ويلف الضباب مآذنَها

وتغطي المياه سفائِنَها

وتعود إلى قبرِكَ الملكي بها،

وأعود إلى قدري ومصيري

من تجري يعلم الآن في أي أرضي أموت؟

وفي أي أرض يكون نشوري؟

إنني ضائع في البلاد

ضائع بين تاريخي المستحيلِ،

وتاريخَي المستعاد

حامل في دمي نكبتي

حامل خطئي وسقوطي

هل تجري أتذكر صوتي القديمَ،

فيبعثني الله من تحت هذا الرماد

أم أغيب كما غبتَ أنتَ،

وتسقط غرناطة في المحيط !

سبتمبر 1971