لم أضبط نفسى يوما متلبسا برغبة ولو عابرة لقراءة ما يكتبه، أو مهموما بمتابعة ردود الأفعال الناتجة عن آرائه التى توصف بـ «العبثية» فى شكلها ومضمونها، كما أننى لا أميل لرؤيته أو الاستماع إليه على شاشة قناة «الجزيرة» الفضائية، وقت كان دائم الظهور فى برامجها بمقابل معلوم، حين كنا نظن وبالطبع ليس كل الظن إثما أن تلك القناة نموذج مبهر للإعلام المهنى القومى، الذى يتيح بجرأة الفرصة كاملة للرأى والرأى الآخر، وذلك قبل أن ينكشف أمرها وحقيقة الدور الذى تلعبه الأسرة الحاكمة فى «قطر» لصالح الاستخبارات الأمريكية.. أتحدث عن «فهمى هويدى» الكاتب القريب من دوائر الحكم فى إيران، والمنظر المحسوب على تيار الإسلام السياسى.
النفور الذاتى من جانبى على الأقل، لم يكن مبنيا على هوى شخصى أو قائما على ترجمة لمواقف انفعالية عاطفية تحمل رفض ما يكتبه بسبب الكراهية، أو قبول ما يهذى به من خزعبلات كنوع من القبول مثل مريديه، إنما لأنه دأب فى كتاباته على خلط الأوراق والتعامل مع القضايا ذات الحساسية بطريقة ملتوية، ظنا منه أن هذا الخلط البيّن سيمكنه من تمرير ما يريد تمريره لقرائه ومريديه، متبعا طريقة منبوذة فى أدبيات مجتمعاتنا، يطلق عليها دس السم فى العسل بهدف تحقيق مراميه، ظنا منه أنه قادر على التأثير بنفاذ رؤاه لدى شرائح واسعة، باعتباره واحدا من طليعة الكتاب المحسوبين على تيار الإسلام السياسى الذين احترفوا هذا النوع من فنون الكتابة المغرضة، عبر استدعائه ببراعة للمفردات العميقة والعبارات الرصينة من قواميس اللغة.
ففى إطار سعيه الدءوب لتبوء مكانة تضعه فى مصاف المفكرين الكبار المهمومين بالقضايا القومية أو ربما الكونية، لم يترك مناسبة إلا وراح يدلو بدلوه فيها كناصح أمين على مستقبل الأمة وخبير فى شئونها السياسية والاستراتيجية، رغم قناعاته بأن الرأى العام لن يمنحه هذا الشرف لأسباب ليست خافية على أحد، لعل أبرزها اليقين الراسخ فى أذهان الكثيرين أن الرجل لا يهمه شأن الوطن بالقدر الذى يساوى على الأقل دفاعه البغيض عن جماعة الإخوان، فضلا عن أنه ما زال سجينا فى زنازين الأفكار المعطوبة والأمنيات الموبوءة.
قبل أيام وتحديدا يوم الأربعاء الموافق ١٦ ديسمبر، نشر «هويدى» مقالا حول التحالف الإسلامى الذى أعلنت عنه المملكة العربية السعودية لمواجهة الإرهاب وتنظيم داعش، تضمن المقال قدرا هائلا من التهكم والسخرية، عبر السرد القائم على افتراضات وتكهنات تدور فى خياله، لكنه تعامل معها باعتبارها معلومات مؤكدة، إلى جانب قيامه باستدعاء الوقائع التاريخية للتدليل على صحة افتراضاته.
حفزنى على قراءة المقال كرها ما جرى تداوله على مواقع الشبكة العنكبوتية، ومفاده أن الكاتب المتأرجح بين المتناقضات ميوله لإيران باعتباره أحد المنظرين لنظام الحكم فيها وقناعاته بالدور الذى تلعبه جماعة الإخوان مدعوما من قطر وتركيا أزاح الستار عن خبايا التحالف الإسلامى، ومخاطره على مستقبل المنطقة العربية، لكن بمطالعة المقال لا يجد القارئ سوى فكرة هلامية رخوة لا يمكن الإمساك بها.
فهو استخدم بعض المفردات التى يوحى ظاهرها، أنها رؤية متوازنة ناتجة عن التحليل المنطقى والعقلانى، لكنها فى حقيقة الأمر، محاولة من جانبه للتدرج بالمعطيات الوهمية المبنية على خيال مريض، وصولا لنتائج هدفها إقناع من لا يعرف هواه ومقصده فى توجيه الانتقادات لسلطات الحكم فى مصر.
امتطى «هويدى» صهوة خيالاته وراح يعبر عن حقيقة توجهاته التى تصب فى صالح الدولة الإيرانية، دون تنويه من جانبه عن رفضه للإرهاب وتداعياته على المنطقة العربية، لكنه فقط أعلن عن تخوفه من الحروب المذهبية بين السنة والشيعة، الأمر الذى جعل تناقضا فجا وقبيحا يخرج من بين سطور مقاله، حيث قال «إنه لم يأخذ على محمل الجد مسألة تأسيس جيش إسلامى لمواجهة الإرهاب والقضاء على داعش»، كما أعرب فى الوقت ذاته عن انزعاجه لأن هذا التحالف أو الجيش موجه بالأساس ضد إيران والشيعة فى المنطقة العربية، واصفا التحالف الجديد بأنه مجرد عنوان له رنين يقيم كيانا جديدا فى الفضاء، ينضم إلى مؤسساتنا التى نقرأ عنها فى الصحف فقط ولا نرى لها أثرا على أرض الواقع وفق رؤيته.. معتبرا التحالفات العربية والإسلامية ظاهرة لغوية وإعلامية.. وأن أى نشاط عربى حسب وصفه لا يكاد يتجاوز مسابقات كرة القدم ومهرجانات السينما ومسابقات البرامج التليفزيونية، مشيرا إلى أن التحالف العربى الوحيد الذى حقق أهدافه، هو الذى قادته أمريكا لتحرير الكويت.
لم يتوقف سرده عن تلك الحدود التى أراد من خلالها الوصول لهدفه عبر الإيحاء بأن ثمن انضمام مصر للتحالف ضد الإرهاب، كان مقابل صفقة عبارة عن وديعة سعودية لمصر فى اليوم التالى للإعلان عن التحالف، إلى جانب استدعائه من التاريخ الحروب التى نشأت بين الصفويين والدولة العثمانية محاولا التأكيد على رؤيته بأن التحالف نشأ ضد إيران، وهذا بدوره يتناقض كلية مع ما أورده صراحة فى نفس المقال، بأن التحالفات بين البلدان العربية أشبه بمهرجانات السينما ومسابقات كرة القدم..فأيهما نصدق «هويدى» الذى استهان بالتحالف.. أم «هويدى» الذى يؤكد أن الهدف هو الحرب المذهبية بين السنة والشيعة!!
لا يمكن بحال من الأحوال أن نطلق على ما يكتبه هويدى أفكارا أو رؤى تحليلية رصينة للواقع السياسى سواء المحلى أو الإقليمى، إنما يمكن الحكم على ما يكتب بأنه مجرد مفردات متسقة فى الشكل ومتناقضة فى المضمون، تعبر فى النهاية عن حجم القبح الكامن فى مساحات مرجعياته الفكرية والثقافية التى تأسس عليها مشروعه فى الكتابة، وهى نفس المرجعيات التى فرضت الدعاوى الرامية لإغلاق العقول وتعطيل دورها فى التفكير.. لذا يصبح من الضرورى أن نقول لـ«هويدى» قل خيرًا أو اصمت.