فى سياق المتابعة والرصد للمشهد الانتخابى على أرض الواقع، توقفت أمام بعض النقاط التى أثارت جدلا واسعا، بل وحظيت بقدر هائل من الاهتمام المحفز على الاشتباك معها. منها على سبيل المثال، الترويج الزائف لما جرى تسميته بـ«مقاطعة الشباب» للانتخابات.
هنا لا أنكر أن شريحة من بين الشباب أعلنت عدم المشاركة فى الانتخابات بدوافع متنوعة، سواء تضامنا مع دعوات أصحاب المصالح الذاتية والباحثين عن دور يجعلهم جزءا من المشهد السياسى، أو من هواة المعارضة لكل شىء، المثير أن المنتمين لهذه الفئة أصيبوا بمرض الغرور.
هذا الداء الخطير جعل غالبيتهم إن لم يكن جميعهم، يتصورون أنهم احتكروا المعرفة والرؤية الصائبة التى تمكنهم من إملاء شروطهم على الدولة، وتحديد رغباتهم فى توجيه سياستها والحكم على الأشياء بنوع من الاستعلاء المصنوع بالنفخ الإعلامى والنخبوى، دون امتلاكهم أى مقومات حقيقية تجعل الرأى العام يتغاضى عن هذا الاستعلاء، سواء كانت تلك المقومات عمرية، أى مرتبطة بالسن أو مقومات سياسية ناتجة عن الممارسة، أما إذا كانت الأمور المتعلقة بالصخب والمظاهرات تمثل نوعا من الخبرة السياسية، فهذا أمر آخر.
فى المقابل توجد شريحة شبابية أكبر عددا، لم يشارك أفرادها فى أى عمل عام سابق أو حالى بفعل السلبية أو عدم الاكتراث بالمسئولية الوطنية، لأنهم ببساطة اعتادوا الانكفاء على أنفسهم والابتعاد عن المشهد برمته، سواء لعدم درايتهم بالشأن العام بحكم صغر السن.. أكرر بحكم صغر السن، أو جراء تراكم الفساد واحتكار فئة بعينها لعناصر السلطة والثروة عبر عقود طويلة، ولم ير أى منهم تغييرا ملموسا على الأقل بالنسبة لهم فى أوضاعهم الاجتماعية وظروفهم الاقتصادية، الأمر الذى جعل غالبيتهم يفقدون الثقة فى البرلمان القادم، خاصة مع السفه فى الإنفاق على الانتخابات، واستخدام الملايين من بعض المرشحين لشراء أصوات الناخبين عبر استغلال الفقراء.
لا أوجه اللوم للذين استغلوا العزوف المعتاد عن المشاركة بفعل اللامبالاة ووصفه «مقاطعة»، بهدف توظيفه سياسيا لغرض فى النفوس، لكن اللوم يذهب تلقائيا إلى المسئولين عن إدارة شئون الدولة وجهابذة تفصيل التشريعات التى خلطت الحابل بالنابل فلم تفرق بين الشباب والأطفال ووضعت الجميع فى خانة واحدة.
هؤلاء جميعا منحوا الفرصة أمام الفرسان الوهميين المحسوبين على النخبة السياسية، لرفع سقف المزايدات فى الغزل الرخيص والإطراء غير المسئول للشباب، دون تحديد الفئات المقصودة بمصطلح «الشباب»، وتحديد أعمارهم القانونية.
تجلت تلك المزايدات فى الأحاديث المكررة المملة عن دورهم فى التغيير، وضرورة إشراكهم فى الممارسة السياسية، وصولا إلى الاستعانة بهم فى الوظائف العليا، الأمر الذى جعلهم يتدللون «من الدلال».
إشراك الشباب هو قول الحق باعتباره ضرورة للنهوض بالدولة اعتمادا على الحماس، لكن استخدام المقولة فى سياق التعبئة للضغط على المجتمع، هو الحق الذى يراد به باطل، فالشباب من وجهة النظر السياسية هم الذين يشاركون فى المظاهرات والصخب.
المثير للاستغراب هو عجز الدولة بكل مؤسساتها عن مواجهة العبث فى كل ما يتعلق بهذه القضية، سواء من حيث الإشكاليات القانونية أو الأبعاد السياسية، فالعجز أو السير فى ركاب ما هو سائر ساهم بصورة أو أخرى فى انتقال عدوى المزايدات إلى الحكومة ذاتها.
تبلور ذلك فى إعطاء حق الانتخاب لكل من لديه بطاقة الرقم القومى دون التقيد بالحصول على بطاقة انتخابية مخصصة لهذا الغرض، خصوصا أن بطاقة الرقم القومى يتم استخراجها فى سن الـ١٦ لإثبات الشخصية فقط، فى حين أن حق التصويت يبدأ من سن ١٨ كما هو معلوم للكافة، وهذه الفئة العمرية تبلغ عدة ملايين مقيدين فى الجداول الانتخابية.
على الجانب الآخر من هذه النقطة تحديدا، نجد أن القانون المعمول به يعتبر الفئات العمرية من سن ١٨-٢١ من الأطفال القصر، أى أنهم «تحت الوصاية أو الولاية»، بما يعنى أنهم غير مسئولين عن تصرفاتهم الشخصية، كما لا يجوز لهم الترشح أو إصدار التوكيلات من الشهر العقارى، فضلا عن منعهم من التعامل مع البنوك، لأنهم ببساطة وحسب القانون لم يبلغوا سن الرشد المحدد بـ«٢١ سنة»، وهى السن التى تجعلهم مسئولين عن تصرفاتهم.
إذا كان هؤلاء قد جرى تقييد حريتهم فيما يملكون باعتبارهم غير كاملى الأهلية القانونية، التى تمنعهم من حق التصرف.. كيف أعطى لهم قانون الانتخابات حق المشاركة فى تقرير مصير بلد؟
ألم يكن هذا جديرا بالوقوف أمامه؟ الهدف ليس الرفض بقدر ما هو محاولة لاستيضاح الأمر من الدولة حتى لا يصبح الجميع فى طابور واحد، مَن يملك الأهلية القانونية مع مَن لا يملكها، وعليها، أى الدولة، أن تجيب عن التساؤلات المطروحة حول هذا الشأن وتوضيح الفروق بين الأهلية القانونية والأهلية السياسية.. بمعنى أكثر دقة.. إذا كان المواطن ممنوعا بقوة الدستور من الترشح فى الانتخابات فهل من حقه الإدلاء بصوته فى الانتخابات؟ تساؤلاتى حول تلك القضية لن تتوقف ما دام استمر التذلل من جانب النخبة والحكومة على حد سواء عبر الحديث الدائم عن دور الشباب دون وضع الضوابط القانونية التى تحدد من هم الشباب، الذين أغراهم الثناء والمديح.. أعلم أننى أسير فى مساحة شائكة، لكننى لن أتوقف حتى تنتهى عمليات خلط الأوراق.. فى هذه المساحة ودون مزايدة سأكون فى طليعة المدافعين عن حق الشباب فى تولى المسئولية، لكن علينا أن نفرق بين الشباب و«الصبية» المهووسين بصناعة الضجيج دون دراية.