إذا كنت متابعا بقدر من الموضوعية المجردة عن الهوى، لكل إشكاليات الجدل المحتدم حول عزوف الشباب عن المشاركة فى الانتخابات النيابية، سوف تصل لقناعة لا تقبل الشك بأننا جميعا أمام مشهد عبثى بلا ملامح..
المشهد إن شئنا الدقة يشبه فى تداخل خطوطه وتشابك تفاصيله المعقدة، لوحة سريالية عصية على الفهم.. فالحديث عن ضرورة إشراك الشباب فى الحياة العامة ومنها الانتخابات، تحول بفعل فاعل إلى حديث هزلى أو نكتة سخيفة مملة من كثرة تكرارها بمناسبة وبدون مناسبة، فضلا عن أن الترويج لها -أى النكتة- ساهم بشكل أو بآخر فى تدلل واستعلاء فئة قليلة منهم وليست الشريحة الأكبر التى تمثل الغالبية.. أفراد هذه الفئة يظنون أنهم احتكروا الحقيقة والرؤية الصائبة وحدهم، دون امتلاكهم لأى مقومات حقيقية تجعلنا نتغاضى عن هذا الاستعلاء البغيض.
إن التذلل من جانب النخبة والحكومة على حد سواء لهؤلاء بالحديث الدائم عن دورهم فى البناء والتنمية والنهوض وغير ذلك من المصطلحات أو المسميات المستهلكة، صار على الأقل بالنسبة لى نوعا من المغازلة الرخيصة التى تشبه مداعبة مشاعر غانية لعوب تتدلل من كثرة المديح فى مفاتنها، وهذا ليس وصفا لهم بقدر ما هو نوع من الرفض لمداعبة فئات جعلت من اللا مبالاة عنوانا لتصرفاتهم فى كل ما يخص الشأن العام بكل تفاصيله..
فى هذا السياق لم يعد بمقدور أحد مهما كانت براعته فى فك شفرات الطلاسم، أو مهارته فى تحديد ملامح الواقع أن يخرج بتصور واضح لممارسات هذه الفئة من الشباب، رغم حصولهم على نصيب وافر من الحقوق الدستورية التى تهدف لإشراكهم فى المواقع المهمة إلى جانب اهتمامات الدولة بتشجيعهم على الممارسة السياسية، الا أنهم فضلوا النضال على مواقع التواصل الاجتماعى، راحوا يخاطبون بعضهم البعض على طريقة عواجيز الفرح، يقررون وحدهم صلاحية هذا ويرفضون ذاك، ويصدرون الأحكام على البرلمان قبل أن يبدأ.
الغريب أن أحدا منهم لم يكلف نفسه عناء المشاركة واختيار من يراه صالحا لتمثيله فى البرلمان، أما الأغرب فهو تجاهل ملايين الشباب المتفاعلين مع قضايا الوطن والمشاركين فى تحديد ملامح الخريطة السياسية بنزولهم للتصويت فى الانتخابات، خاصة إذا علمنا أن الواقع على الأرض يؤكد أن غالبية الشباب هم الصناع الحقيقيون لنتائج المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية، إلا أن الإعلام الشائه لم يلق الضوء على تلك المشاركة وراح يردد هرتلات الإخوان دون روية، ويفرض على الرأى العام عبر برامجه حديث المقاطعة الوهمى.. وهاتك يا تحليل فى مناقشة الظاهرة غير الموجودة بالأساس، فى محاولة لإثبات أن عدم مشاركتهم له أسباب منها عدم الشعور بالحرية وعدم الإفراج عن المحبوسين المتورطين فى العمالة لصالح أجندات أجنبية، رغم علمهم جميعا «النخبة والفئات التى تدعى الثورية»، أن ما حدث فى مصر هو رغبة شعبية بامتياز بداية من إسقاط مبارك وليس نهاية بإسقاط الفاشية الدينية!!
القراءة المتأنية لتفسير ما أرادوا له أن يكون «ظاهرة»، تشير إلى أنها تحمل تنوعا فى وجهات النظر حولها، جميعها يؤكد أن القضية مركبة، والإبقاء عليها فى خانة العزوف فقط، يؤكد الفقر فى ابتكار الحلول والقفز على الواقع، فهؤلاء لا يدركون تبعات ما يفعلون، الأمر الذى يقود للمطالبة بأن تتولى المراكز البحثية إخضاع هذه التصورات للبحث العلمى، خاصة إذا علمنا أنهم يتحدثون عن الديمقراطية ويرفضون فى ذات الوقت ما تأتى به الديمقراطية، يروجون لأحاديث الحرية على هواهم، فاختلطت المفاهيم ولم تعد لديهم فروق واضحة بين الأشياء، جراء تنامى همجية الإعلام وفوضوية النخبة وتراكم فشل الحكومات فى تلبية الاحتياجات، أما الأخطر فهو نشوء فاشية تسعى لفرض سطوتها على المجتمع والدولة.
الفاشيون الجدد راحوا يمارسون أبشع أساليب الديكتاتورية على الـ«فيسبوك» عبر توجيه الانتقادات وإعلان رفضهم للمرشحين، والإساءة للبرلمان القادم، دون مشاركة من جانبهم فى أى استحقاق يقود للاستقرار.. هذه الفئة القليلة التى اتخذت مواقع التواصل الاجتماعى منبرا لها بدعوى أنهم ثوريون وكأن الفعل الثورى حصرى لهم، وفى المقابل بدأت النخبة الباحثة عن دور فى ترويج المزيد من التدليل عبر الأطروحات الرامية لإهدار دولة القانون، تبلور ذلك فى الحديث عن ضرورة خروج الشباب من السجون، فى تجاهل تام لأحكام القضاء.. ألم يكن هذا قمة العبث باستقرار الدولة!!
لذا لم يكن غريبا أن نرى من هذه الفئة سوى دعواتها الدائمة للخراب تحت دعاوى ومزاعم متنوعة، هدفها الحقيقى إثارة الفوضى تحت لافتة الحقوق المشروعة، دون دراية بعواقب ما يريدون فعله، أو إدراك أن الثورات تندلع لأجل البناء والإصلاح وليس التخريب الذى يضعف من مكانة الدولة..
من هذا المنطلق تتملكنى رغبة عارمة فى طرح التساؤلات المشروعة.. هل يريد هؤلاء المقصود الفئة التى تمارس الديكتاتورية توجيه المجتمع على هواهم؟ أم أنها تريد إقصاء الغالبية من الشعب وعلى رأسه الشباب؟