على عتبات الحقيقة تسقط كل عبارات الزيف وتتلاشى مساحيق التجميل من فوق الكلمات الرنانة والمصطلحات الخادعة.. هنا.. وهنا فقط نجد الأشياء.. كل الأشياء أمام أعيننا عارية تماما مجردة من ثيابها الأنيقة ورائحتها المستوردة، فتصبح عاجزة عن الإغواء أو التشجيع على الإطراء. الحقيقة التى أقصدها هى واقعنا العربى بكل تفاصيله المعقدة والمرتبكة، فهذا الواقع المهين يدهس أسفل أقدامه كل المفردات والمسميات الناعمة التى جرى تسويقها تحت لافتة ثورات الربيع العربى وانحاز لبريقها شرائح متنوعة مدفوعة بالحماس دون دراية منهم بحجم وبشاعة المخططات الأمريكية، التى تم تنفيذها على الأرض بأدوات للأسف داخلية، تمثلت فى نخبة شائهة مشوهة راحت «تطنطن» فى وسائل الإعلام بمصطلحات جوفاء، عن التغيير ونشر الديمقراطية وحقوق الأقليات، بهدف خلق بيئة متنافرة وغير منسجمة داخل الأقطار العربية.. بيئة مشحونة بالصراعات المذهبية والعرقية والطائفية مرورا بالتفرقة على أساس أيدولوجى.
النتيجة أننا لا نقف الآن على العتبات فقط، لكننا نغوص فى أعماق الحقيقة الكاشفة عن واقع مهين، صارت فيه البلدان العربية على امتدادها الجغرافى غارقة فى الحروب تحت شعار إسقاط الأنظمة من أجل التغيير، فنشأت تنظيمات مسلحة فى سوريا واليمن وليبيا والعراق.. أما الأخطر فهو أن المنطقة أصبحت مسرحا لصراع الديناصورات العالمية، تمثل هذا الصراع من الناحية الشكلية فى حرب التصريحات بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، وروسيا الاتحادية من ناحية أخرى، لكن جوهره يؤكد أن كلا منهما يبحث عن مصالحه الاستراتيجية رافعا شعار الحرب على الإرهاب.. من الآخر أصبحت بلادنا جثة تنهش فى لحمها الكلاب المسعورة!!
واشنطن ترفض تدخل روسيا فى الأزمة السورية لأن ذلك يعنى من وجهة نظرها يمثل إنقاذا وحماية لنظام بشار الأسد، وعلى هذا الأساس راحت تطلق التصريحات والتحذيرات من أن تنال الضربات الروسية على ما أطلق عليه «الجيش الحر وجماعات المعارضة المسلحة»، وهنا لا نملك سوى التساؤل.. هل توجد معارضة مسلحة بأى دولة فى العالم؟ وفى السياق ذاته.. هل لدى أى دولة جيشان أحدهما حر والآخر تابع للنظام؟ علينا استدعاء مصطلحات المارقين المدعومين من الـ «سى آى إيه»، عندما رفعوا شعار يسقط حكم العسكر.. ألم يكن هذا كافيا لأن ندهسهم أسفل الأقدام ونصفهم بأقذع الألفاظ!!
وأيضا ألم يكن هذا كافيا بأن تتجه سهام الاتهامات لـ «واشنطن» بأنها وراء كل ما يجرى فى سوريا من حروب دامية أدت لهجرة ملايين المواطنين عن ديارهم.. مجرد رؤية أترك تفسيرها لدعاة التخلص من الأنظمة دون إدراك للعواقب!!
أعلم جيدا أننى لست خبيرا فى علوم الحرب ولا أستطيع الزعم بأننى على دراية بتكتيكاتها، لكننى أدرك مثل كثيرين غيرى مخاطرها، وأؤمن بأن الشعوب وحدها هى التى تدفع الثمن، فعندما تتصارع الثيران أو الأفيال يُدهس العشب تحت الأقدام.
وفى هذا السياق لا أنكر أن السعادة تغمرنى جراء التدخل العسكرى الروسى فى الأزمة السورية، وإن كانت روسيا تدافع عن مصالحها الاستراتيجية، إلا أن التدخل من وجهة نظرى يجسد لواقع جديد على الساحة الدولية، يحمل فى ظاهره وجوهره دلالات متنوعة، يؤكد مجملها على أن الدب الروسى عاد ليحد من انفراد أمريكا بالهيمنة على العالم على طريقة «كش ملك» ويغلق الباب أمام محاولات تقسيم الدولة المهمة فى محيطها الإقليمى!!
إن مبررات واشنطن وادعاءاتها بالحرب ضد «داعش» سقطت عندما تدخلت روسيا لنفس الهدف وهنا علينا أن نتساءل.
من الذى منح السلاح المتطور للتنظيمات الإرهابية؟ ألم تكن أمريكا!!
من الذى يقايض البترول بالسلاح؟ ألم تكن الحكومات الأوروبية!!
من أين لـ «داعش» بالأسلحة الثقيلة التى تواجه بها جيوش دول عظمى؟ طبعا حصلت عليها من أمريكا!!
الواقع على الأرض فى سوريا كشف الزيف والأكاذيب فى خلط الأوراق وإدانة بشار بمناسبة وبدون مناسبة، تارة لصالح المعارضة وتارة أخرى لتصفية حسابات ذاتية من حكام عرب يفتقدون الرؤية الصائبة ولا يدركون حجم المخاطر الناجمة عن المقامرة بمستقبل المنطقة، على هذا الأساس تلاقت المصالح بين المارقين والأغبياء والقوى التى تريد السيطرة على الثروات.
التلاقى الذى أقصده له شواهد متنوعة، لعل المعلوم منها، توفير الدعم المالى للتنظيمات الإرهابية فضلا عن الدعم السياسى والمعلوماتى الاستخبارى وإن كان بلا مردود، أما الذى يدور فى الكواليس فهو شيء آخر، هناك أطماع استراتيجية ومطامح ذاتية لا حصر لها.
أنا هنا لا أدافع عن بشار الأسد ونظامه ولن أدافع عنه، كما أننى لم أضبط نفسى يوما متلبسا بالتعاطف معه أو مع غيره من الحكام العرب، رغم قناعاتى الراسخة بأن ما يحدث فى سوريا هو صناعة أمريكية أوروبية عربية خالصة، امتزج فيها النفوذ الدولى بالمال العربى لتحقيق مخططات استراتيجية معدة سلفا، لكننى لا أنكر أننى قلق على مستقبل الجيش السورى والدولة ذاتها.