ماذا تعني زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى روسيا؟ هل الذهاب إلى موسكو بداية لمقاطعة واشنطن؟
تلك التساؤلات وغيرها قفزت إلى ذهنى بالضبط مثلما طرأت على أذهان كثيرين غيرى ممن وضعوا الزيارة فى بؤرة الاهتمام، باعتبارها تحركا إيجابيا فتح الباب أمام تصورات لملامح محاور افتراضية على المستويين الإقليمى والدولى، بما يشير إلى أن الهدف من طرح التساؤلات لم يكن بغرض البحث عن إجابات محددة، إنما لقراءة الرؤى المختلفة حول دلالات الزيارة وتداعياتها.
فهى من وجهة نظرى، أى الزيارة، دشنت لمفاهيم جديدة تتجاوز حدود المردود الاقتصادى والتقنى، وإن كان كلاهما مهما وملحا فى تلك الظروف، فالمفهوم الذى أعنيه هو استرداد قيمة مصر ودورها الاستراتيجى، خاصة أن الدولة تمر حاليا بمرحلة اختبار حقيقى لقدرتها على تحديد مصيرها فى ظل وجود محاور تشكلت فى المنطقة «الولايات المتحدة الأمريكية، تركيا قطر، إسرائيل».
القراءة الدقيقة للعلاقات بين دول المحور الذى تحقق على أرض الواقع، تشير إلى أنها تشهد نموا غير عادى على المستويين الاقتصادى والعسكري، بما يهدد المصالح الاستراتيجية العربية. ومن هذه النقطة فى ظنى تأتى أهمية التحرك المصرى صوب روسيا لإقامة علاقات قوية معها باعتبارها أحد أقطاب العالم. فضلا عن أن الزيارة حملت ملامح مهمة، تشير إلى تشكيل محور عربى روسى لمواجهة مخططات التقسيم عبر استراتيجية موحدة. لذلك لم يكن من اليسير إغفال وجود زعماء ٣ دول عربية بالعاصمة الروسية فى وقت واحد «مصر، دولة الإمارات العربية، الأردن».
تعجبت كثيرا من آراء بعض مدعى الخبرة فى الشأن الاستراتيجى من قدرتهم على «السفسطة» والتبارى فى سرد تصوراتهم النظرية للزيارة، دون قراءة موضوعية لما يحيط بها من تشابكات، لا يمكن إقصاؤها بعيدا عن تعقيدات المصالح فى المنطقة، وهنا أعنى مصالح القوى المؤثرة فى توجهات السياسة الدولية. الغريب أنهم يتعاملون مع تلك التصورات، باعتبارها معطيات يترتب على أثرها نتائج تقود إلى وضع كل الأوراق فى سلة الرضا الأمريكي، دون إدراك للحقائق التى طرأت على شكل العلاقات الدولية القائمة بالأساس على المصالح المشتركة.
من الأمور المثيرة للاستغراب اختزال زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أبعادها الاقتصادية الممثلة فى تشجيع الروس على السياحة والاستثمار والاتفاق على البدء فى مشروع الضبعة النووى وغير ذلك من الأمور، فى محاولة لإغفال ما هو أكثر أهمية. الزيارة عكست جملة من الحقائق مفادها أن العالم يتشكل من جديد، ولم يكن غريبا على الدولة المصرية أن تلعب دورا تتبوأ من خلاله مكانا لائقا فى المشهد الدولي، فهى صاحبة تراث تاريخى فى هذا الشأن باعتبارها واحدة من صناع حركة عدم الانحياز والحياد الإيجابى، وهو التحالف الذى أصبح طرفا فاعلا ومؤثرا فى السياسة الدولية، دون التبعية لأى من القطبين الكبيرين؛ الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
القراءة الدقيقة لتفاصيل المشهد المعقد على الساحتين الإقليمية والدولية، تدحض كافة الأصوات النشاز التى تنعق فى فضاء التبعية للتوجهات الأمريكية، فتلك القراءة تشير بوضوح إلى أن مساحة التلاقى والتنافر بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، تحكمها المصالح الاستراتيجية دون سواها، أيضا مساحة التلاقى والتنافر المصرى الأمريكى تدور وفق المصالح، ولم يغب عن صانع القرار الدور الذى تلعبه واشنطن مع حلفائها لتقسيم المنطقة العربية.
المشهد فى ظاهره يشير إلى وجود اتفاق عربى تجاه بعض القضايا والتناقض فى قضايا أخرى. لعل أبرز مظاهر الاتفاق، هى المتعلقة بالموقف الحاسم تجاه ما يجرى فى سوريا من أحداث، لوأد تداعياتها الكارثية الرامية إلى تقسيم المنطقة لعدة دويلات ضعيفة متناحرة مذهبيا وطائفيا وعرقيا، بما يقود إلى إرباك المنطقة بأكملها، عبر الصراعات التى ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية.
سوريا كانت حاضرة على أجندة المباحثات المصرية الروسية، حيث تدور مساعى مصر فى الحفاظ على الدولة باعتبارها إحدى دول الطوق. وفى السياق ذاته لا يمكن القفز على التحرك الأمريكى الرامى لعرقلة مصر، ففور وصول الرئيس السيسى إلى موسكو طلب باراك أوباما لقاء عاجلا مع العاهل السعودى بهدف تقويض الدور المصرى والضغط على المملكة السعودية حتى لا تكون ضمن المحور الذى بدأ يتشكل واقعيا، فضلا عن استثمار المساحة الضيقة من الخلاف حول سوريا، وهى النغمة التى يرددها أتباع أمريكا. فهناك من يتصور وجود تعارض فى الموقفين المصرى والسعودى من الأحداث فى سوريا، فالموقف السعودى ليس مرتبطا بالأمن القومى والمصالح الاستراتيجية للمملكة، فى إطار التصدى للمشروع الفارسى الرامى لحصارها بهدف تشكيل أنظمة حكم موالية لها فى سورية والعراق، وقبل ذلك لبنان عندما صنعت كيانا موازيا للدولة يمتلك ميليشيات وأجهزة أمنية «حزب الله»، وأخيرا اليمن حيث تقوم بتقديم الدعم المادى والتسليح لجماعة الحوثى التى انقلبت على السلطة الشرعية فى اليمن.. أما الموقف المصرى فتحكمه أبعاد استراتيجية ودواع أمنية أخرى، ربما تختلف عن بقية البلدان العربية. الهدف المصرى هو الإبقاء على الدولة السورية وتماسك الجيش ضمانا لعدم تفكيكه على غرار ما جرى فى العراق، فالحفاظ على وحدة الجيش السورى يمثل أحد أهم الأركان الأساسية للأمن القومى العربى، باعتبار أن سوريا طرف أصيل ورئيسى فى معادلة الصراع العربى الإسرائيلى.