إن الاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة ليس مناسبة عادية يمكن المرور أمامها بقدر من الارتياح والتفاؤل ثم الانصراف عنها، فالقراءة الموضوعية تؤكد أنه حدث تاريخى وعالمى بامتياز، فضلا عن أن المشروع تعبير عملى عن قدرة المصريين على تطويع المستحيل وإبهار الدنيا، كما أنه يحمل الكثير من الدلالات، التي تحفز على الوقوف أمامها، منها الأداء المبهر للقوات المسلحة، فهى التزمت وتعهدت وأوفت بما وعدت، الأمر الذي يقودنا إلى المطالبة بتعميم آليات النظام العسكري بما فيها من دقة وإتقان وثواب وعقاب في كل مؤسسات الدولة المدنية، باعتبارها حلا وحيدا للتخلص من البيروقراطية والتبلد الحكومى الذي كرس الفساد والتسيب.
العبرة من الانبهار بقناة السويس الجديدة ليست لكونها شريانا ملاحيا له عوائد اقتصادية مؤكدة ومساهمات اجتماعية متوقعة، تتمثل في الحد من تفاقم مشكلة البطالة المزمنة وبناء مجتمعات سكانية متكاملة خدميا واقتصاديا.
إنما القيمة الحقيقية تكمن في الإرادة السياسية، فهى وحدها التي أيقظت الشعور بالانتماء والزهو بالكرامة الوطنية بعد تغييبهما بفعل فاعل نحو ٤٠ عاما كاملة، جرى خلالها تسطيح الوعى لدى شرائح لم تعاصر فترات الصراع والحروب ومعارك التحرر من التبعية بكل ما فيها من انتصارات وانكسارات وهزائم قاسية مريرة، فضلا عن ترسيخ الشعور باللامبالاة وعدم القدرة على التفاعل مع المتطلبات الضرورية للنهوض بالوطن.
اللامبالاة التي أقصدها ليست فقط في عدم وجود رؤية إستراتيجية للمستقبل يمكن الالتفاف حولها، لكن هناك عوامل أخرى كانت تقف وراء تناميها، في مقدمتها السياسات البغيضة من أنظمة الحكم المتعاقبة، التي جعلت من البيت الأبيض قبلة لها في كل التوجهات، الأمر الذي تلاشت فيه الإرادة الوطنية، وامتد صداها إلى غالبية الشعب بمختلف شرائحه وتنوع اتجاهاته.
إن المشروع يساوى إن لم يكن يفوق في قيمته السياسية إنشاء السد العالى الذي كان رمزا لانتصار الإرادة الوطنية والقدرة على مواجهة العنت الأمريكى الذي أجبر البنك الدولى في أعقاب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ على الانصياع لرغبة البيت الأبيض، برفض تمويل المشروع، لإرباك الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد والإبقاء على مصر دولة متخلفة عبر محاصرة تطلعات قيادتها للنهوض بها، فكان قرار تأميم قناة السويس أحد أهم تداعيات المواجهة مع أمريكا والغرب، أيضا المشروع لا يقل أهمية عن قرار الحرب في السادس من أكتوبر ١٩٧٣ وهو القرار الذي تجسدت فيه عزيمة وإصرار المصريين على تحرير الأرض من الكيان الصهيونى.
أهمية القناة الجديدة دفعت غالبية المصريين لمتابعة ما كان يجرى على أرض الواقع من إنجازات يومية في مشروع القرن وكان أكثر ما لفت الانتباه، المساخر الكلامية التي ظلت ومازالت تدور من «طرف واحد» في وسائل الإعلام المشبوهة لا هدف من ورائها سوى التشكيك في المشروع الذي صار واقعا مرئيا وملموسا من الذين يرون بأعينهم ولديهم الإحساس بحقيقة ما يحدث على أرض الواقع.
فمن قبيل معرفة كيف يفكر الآخرون؟ وما هي رؤيتهم للواقع ؟، تابعت قنوات الجماعة المدعومة من قطر وتركيا، فتوقفت كثيرا أمام ما قاله «المدعى» وجدى غنيم عندما وصف «طشت أمه» بأنه أوسع من مشروع قناة السويس الجديدة، في محاولة من جانبه للتشكيك في أهمية القناة، بما يقود للنيل من الرئيس عبدالفتاح السيسى باعتباره هدفا وضعوه في بؤرة سهامهم الطائشة العاجزة.
أنا هنا لا أريد الحديث عن «طشت» أم وجدى غنيم في مقام الحديث عن مشروع سيغير وجه مصر السياسي والاقتصادى شاء من شاء ورفض من رفض، لأن غنيم وأمثاله لهم عندى في موضع الهزل قول آخر.. ولا أملك سوى العزاء لوجدى في طشت أمه المشروع «صنع بإرادة وطنية وأموال مصرية خالصة»، لذلك كان من الطبيعى أن يثير حقد الإخوان الذين رأوا فيه قبل ذلك أمل بقائهم على حساب المصلحة الوطنية، اعتبروه صفقة تجارية قابلة للسمسرة، توسط «خيرت الشاطر» لدى المجلس العسكري في أعقاب ٢٥ يناير لمنح الأسرة الحاكمة في قطر حق الاستثمار تحت لافتة «تنمية محور قناة السويس»، إلا إن تلك الوساطة قوبلت بالرفض التام خاصة إذا علمنا أن الاستثمارات التي كانت ستدخل في مشروعات تجارية عبارة عن شركات «أوف شور» قطرية إسرائيلية.
ففى سنوات حكم مبارك الأخيرة، حضر إلى القاهرة الشيخ حمد بن خليفة حاكم قطر عارضا على الرئيس الأسبق إنشاء مشروع محور قناة السويس بغرض ضخ استثمارات ضخمة، وعندما جرى عرض الفكرة على القوات المسلحة، تم رفضها من المشير محمد حسين طنطاوى وزير الدفاع آنذاك، فقد كانت الأبعاد الإستراتيجية هي الحاكمة للرفض، إلا أن الأسرة الحاكمة في الدوحة لم تيأس ففى أعقاب وصول الجماعة إلى سدة الحكم، أعيد طرح المشروع مرة أخرى بذات اللافتة التجارية التي تصطدم بالأبعاد الإستراتيجية، وبدأ الإخوان التحضير للقوانين التي تعزل مدن القناة «السويس والإسماعيلية وبورسعيد» عن مصر عزلا كاملا باعتبارها إقليما له خصوصية، بما يتيح للمستثمرين القطريين التحكم في المنطقة بالكامل بعيدا عن السلطات المصرية.
محاولات الإخوان تمرير المشروع كانت مغلفة بضخ استثمارات قيمتها ٢٠٠ مليار دولار، تتضمن امتيازا بحق الانتفاع للقناة ذاتها واإشاء محور للتنمية حولها، إلا أن القوات المسلحة بصفتها أمينة على أمن البلاد واستقرارها رفضت مجرد مناقشة الموضوع بالأساس.