مرت ثلاثة وستون عامًا على ثورة يوليو، إلا أنها ما زالت تثير الكثير من الجدل، خاصة بين الأجيال التي لم تعاصرها وخلال احتفال هذا العام بذكراها طرحت العديد من التساؤلات حول فكرة استمرارية الثورة من عدمها، وهل ما حدث في ٥٢ كان شكلا من أشكال الصراع السياسي أم نوعا من التحول السياسي والاجتماعى، وكيف ارتقى إلى مستوى التغيير الجذرى الشامل؟ وتساءل البعض عن المقارنة بين العهدين الملكى والجمهورى، وكيف بدد الجمهورى ميزات كانت موجودة لدى الملكى؟ وتطرق الجدل إلى البعد القومى في ثورة يوليو، ورآه البعض انفتاحا مصريا على العالم العربى، لتكريس فكرة العروبة والقومية العربية في حين رآها البعض الآخر طموحا ناصريا أكثر منه دورا قوميا، ما عكس هذا الجدل حالة من المد والجزر في الفكر والعقل العربى.
نعود لنقطة البداية، في العام ١٩٥٢ شهدت مصر حالة غليان شعبى جراء فساد الأحزاب وحريق القاهرة الذي دبرته أيادٍ مشبوهة وضياع فلسطين انعكست هذه الحالة على انتخابات نادي الضباط، وجاءت النتيجه مبشرة بأن ثمة تغييرا إيجابيا في الطريق فيما عقد الضباط الأحرار، الذين هم وراء تطورات نادي الضباط ، العزم على خروج حركتهم إلى النور وصباح يوم الثالث والعشرين من يوليو لم يكن يدور بخلد أي منهم أنهم على موعد مع أعظم ثورات العالم الثالث وواحدة من أكبر ثورات التاريخ في العصر الحديث، فقد كان أقصى سقف يتمنونه إسقاط الحكومة، وتحييد القصر ورحيل قوات الاحتلال، ولكن مباركة وانضمام الشعب للحركة حول المسار إلى طريق آخر انتقل بالحركة إلى مستوى الثورة، وما ينبغى أن تصبح عليه مصر في عهدها الجديد، وتوسم الضباط الأحرار في اللواء محمد نجيب واجهة للثورة، حتى أدركوا أنه لا بد أن يتحملوا المسئولية كاملة، وبرز جمال عبد الناصر قائدا وزعيما للثورة الذي ارتبط مع الجماهير بعلاقة استثنائية ساعدته على مواجهة التحديات التي بدأت مع سحب الغرب لتمويل السد العالى، والحقيقة أنه كان يخوض معركة شرسة في الداخل والخارج. في الداخل ضد فلول النظام الملكى، وأذناب المستعمر البريطانى وجماعة الإخوان، وفى الخارج مجموعة الدول التي استكثرت التحرر والاستقلال على مصر في مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وفى ٢٦ يوليو ١٩٥٦ وجه عبد الناصر ضربة قاصمة لأعداء الثورة بتأميم قناة السويس، كى تعود مرفقا وطنيا إلى أحضان الوطن وتدار بفكر وخبرة مصرية وما هي إلا أشهر قليلة حتى وجهت بريطانيا وفرنسا إنذارا لمصر لتسليم القناة للإدارة القديمة، ولكن إرادة الشعب كانت أقوى من الإنذار الذي تحول إلى عدوان ثلاثى غاشم فشل في أن يرهب شعب مصر، ويعطل مسيرة الثورة التي مضت في طريق التحرر الوطنى.
وهكذا شعر المواطن المصرى بالفخر والعزة والكرامة، لأن الثورة المصرية بامتداداتها القومية والقارية والعالمية، كان لها أكبر الأثر في انتقال عدوى الثورة إلى العديد من الدول العربية والأفريقية ودول أمريكا اللاتينية، وعلى مستوى العلاقات الدولية عرف العالم حركات جديدة مثل حركة عدم الانحياز وحركة التضامن الأفروآسيوى وظهرت مفاهيم جديدة في السياسة الدولية مثل الحياد الإيجابى والتعايش السلمى وجاءت هذه التطورات في لحظة انقسم العالم إلى معسكرين شرقى اشتراكى وغربى رأسمالى، وكان يجب أن تشق الثورة طريقها بشكل محايد وتنحاز إلى مصلحة الجماهير في مصر والعالم العربى، حيث كان البعد القومى أهم ما يميز هذه الثورة.
وفى السنوات الأولى من حقبة الستينات انتقلت مصر من مرحلة التحرر الوطنى، إلى مرحلة التحول الاشتراكى، غير أن عدوان ٦٧ عصف بالثورة لولا علاقة عبد الناصر الاستثنائية بالجماهير، حيث حولت الهزيمة إلى نقطة انطلاق من جديد، كانت نقطة البداية لإزالة آثار العدوان والدخول في معركة الاستنزاف حتى معركة النصر والكرامة في أكتوبر ١٩٧٣.
ونخلص إلى عدد من الحقائق مما تقدم:
■ أن ثورة يوليو لم تكن صراعا سياسيا على السلطة ولكنها حركة جيش أيدتها الجماهير في لحظات عصيبة، كانت تمر بها البلاد من الفساد السياسي والاقتصادى والاجتماعى، ما استلزم تغييرا جذريا شاملا، وهو مفهوم الثورة في أدبيات العلوم السياسية وليس انقلابا.
■ ثورة يوليو جاءت متسقة على هذا النحو مع إرادة الشعب المصرى، والحالة الوطنية العامة، وعليه لم تكن الفكرة جمهورية أم ملكية بقدر الخروج من بوتقة سيطرة الاحتلال وتأثيرات الفساد المجتمعى.
■ ثورة يوليو تتميز بطابعها العروبى وليست طموحا ناصريا كما ادعى البعض، نتيجة الخلط بين فكرة القومية العربية وخصائص زعامة عبد الناصر.
■ ثورة يوليو انتهت عمليا وماديا، مع وفاة جمال عبد الناصر في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، لكن بالطبع استمرت إنجازاتها وظلت إلى حد كبير عنصر إلهام ماديا ومعنويا لاتجاهات التغيير الثورى، وبرزت بوضوح في ثورتى يناير ٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣.