الجمعة 27 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

سامح قاسم يكتب: الجلبة الكامنة في الصمت

سامح قاسم
سامح قاسم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


ليس ثمة سبب وجيه لتصاب أيها الألماني العنيف بجنون الاضطهاد سوى إجبار والدك لك على المثول أمام أصابع البيانو العتيق وأنت في نوبة من نوبات بكائك المحموم. 
كان هذا المخمور بلا هوادة هو مكتشفك ومعلمك الأول، كان موهوبا وقاسيا بما يكفي لتستحيل أنت إلى شخص شديد الموهبة، شديد العدائية، شديد الارتياب بمناسبة وبلا مناسبة. 
ربما وقفت نوبات بكائك المتكررة وراء نظرات الازدراء التي كنت توجهها للجمهور عندما يصيبهم ارتجالاك على البيانو بشجن عظيم يعقبه بكاء وأسى. 
نظراتك المتجمدة أخفت انفعالاتك للدرجة التي أزعجتك أنت شخصيا فاضطررت إلى البوح لمنتقديك: "الفنانون متوهجو الانفعال إلا إنهم لا يبكون".
أتذكر الأمير "ماكسيمليان فرانز" أيها الموسيقي الفريد؟ أظنه هو من أنقذك من سطوة والدك المترنح بلا انقطاع. كما أظن أنه من أنقذك من العيش في بيت لا يطفو فيه صوت أمك كالبخور فتهدأ نفسك المنزعجة دائما. 
أعرف يا "بيتهوفن" أن "ماكسيمليان" أتاح لك العيش في فيينا "عاصمة الموسيقى" لتتعلم كما ينبغي أن يكون التعلم لكن "هايدن" لم يكن معلما مثاليا لا لشيء سوى أنه لم يقف على تفاصيل روحك النزقة لذا كان من الضروري أن تصقل موهبتك على يد آخرين أكثر دماثة.
موسيقاك أيها العصبي الحاد أثارت "فيينا". الضجيج حولك كان صاخبا دعني أقول لك مداعبا ربما يكون هذا الضجيج الذي أثرته هو ما سبب لك الصمم البسيط الذي معه نبتت لديك ميول للعزلة والوحدة ورغبة ملحة في الانتحار ولم لا أيها الصاخب وأنت القائل: "يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سماعه، أو يسمع آخر أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئا، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، وكدت أضع حدا لحياتي اليائسة، إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك".
الصمم أيها العنيد لم يحل بينك وبين موسيقاك. في وسط كل هذا الصمت صنعت جلبتك الخاصة. 
الصمم لم يثنك عن تفجير المزيد من موهبتك، لم تهدأ روحك الصاخبة إلا عندما ألفت السيمفونيتين الخامسة والتاسعة لتصبحا أكثر موسيقاك شعبية ورواجا.
أدهشت الخلق بموسيقاك أيها الوحيد كشجرة، علمت العالم طرقًا لاقتناص السعادة.. أسهلها على الإطلاق الاستماع إلى الموسيقى.. لكن قل لي هل العبقرية وحدها هي ما مكنك من اعتلاء السلم الموسيقي لقرنين من الزمان أم الحزن المتغلغل في جنبات روحك التعسة لفقدك ثلاثة من أشقائك قبل أن تنعم باللعب معهم؟.. أم فقدك لأمك "ماريا" التي لم يحتمل صدرها الواهن ضربات السل بعد حملها المتكرر بأبناء موت.
عشت فقيرا بائسا ورحلت فقيرا أصما لكنك تركت للبشرية إرثا من الجلبة الكامنة في الصمت الأزلي.