الدكتور نصر الضوى من شرفة مسجد الفولى إلى مستشفى ديروط العام
هل كُتِبَ علينا أن نتجرع الحزن مرتين.. مرة عندما نفقد الأحبة وأخرى عندما لا نجد الكلمات التى نعبر بها عن حزننا عليهم؟
هل كُتِبَ علينا أن نودعهم ونبقى نفتش فى التصاوير عن أرواحنا؟.. عن وجه قاسمناه سنوات من البهجة إبان الصبا والشباب؟.
لا أعرف لماذا قضيتُ وقتًا طويلًا كى ألملم شتات نفسى وأمسك طرف الخيط وأحكى عنه.. ذلك الفتى الأسمر صاحب الابتسامة العريضة والقلب الطيب والضمير الحي.. عاشق الفقراء الطبيب الإنسان؛ نصر الضوى.
كنت طالبًا في الثانوية العامة عندما تعرفت عليه.. كنا نستذكر دروسنا معًا في شرفة مسجد العارف بالله «أحمد الفولى» المطلة على كورنيش النيل بمدينة المنيا «عروس الصعيد».. نصلى الفرض ونستذكر دروسنا ثم نمضي إلى حيث منازلنا المتجاورة في حى أرض المولد وميدان الحلمية بمدينة المنيا.. حيث يسكن الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، وكنا منهم، وما زلنا مهما باعدت بيننا الطرق والمسافات.
كنتُ في قسم الرياضيات وهو في قسم العلوم.. وذهب هو إلى كلية طب أسيوط وذهبتُ إلى كلية التجارة منقولًا لها من كلية العلوم قسم الرياضيات.. لكن صداقتنا لم تخفت لحظة بل امتدت إلى شقيقه الأكبر خريج كلية الآداب وباحث الماجستير، آنذاك، عادل الضوى.. وفي الأجازات يأتى نصر من جامعة أسيوط إلى المنيا فنلتقى ويتندر على بعباراته الأثيرة: «بعتني يا عُبَدْ واخترت عادل؟.. جمعتكم السياسة والشعر والأدب متخيلين أن الطب أبعدني عن تلك المساحة بينكم، أبدًا فأنا هناك أسابق الخطوات إلى المكتبة العامة وأقرأ ما أستطيع وسط زحام المحاضرات».
في العشرية الأخيرة كان صوته يأتي إلى معاتبًا: «لماذا لم ترسل لى النسخة بتاعتى من كتابك الجديد؟»، وكنت أرد متعللًا بأننى أعطيتها إلى عادل ليوصلها لك، ودائمًا كان عادل هو من يحمل أوزارى أمام نصر؛ ذلك الطفل المحب الذى تشكل وجدانه من عمق طمى النيل، ومن محبته للفقراء نسج خيوط الود بينه وبين الناس.
في مستشفى ديروط العام تعرفه قبل أن تصل إلى حجرة الأطباء، تسألك الممرضات: هل تريد الدكتور نصر؟. ويشرن بأصابعهن نحو العنابر حيث يمر على المرضى يكفكف الدموع ويجبر الكسور ويبتسم للحزانى والفقراء المرضى، وفي المساء يجلس وسط زملائه فى باحة المستشفى حيث يتفرع الحديث لكل أنواع الحكى من السياسة إلى الطب مرورًا بالأدب والثقافة.. وكان نصر حكاءًا بارعًا فى كل تلك الموضوعات.
لم يكن يخفي عداؤه الواضح للتطرف والمتطرفين فى بلد تسيطر عليه جماعات العنف الديني وتكاد أن تحكمه بالحديد والنار.
ذهبت إليه عام 91 من القرن المنصرم.. كنت أحقق فى مقتل ثلاثة عشر قبطيًا برصاص الإرهابيين.. حكى لى نصر ما خفى عنى وعن كثيرين زاروا البلدة الصغيرة في عمق صعيد مصر في تلك الفترة.. وأخذ بيدى إلى حيث الحقائق تترى أمام عيني؛ فالطبيب الذى قُتِلَ فى منزله وأمام أسرته تم تهديده من قبل لإجباره على دفع إتاوة لتلك الجماعات لتمويل شراء السلاح لمواجهة الشرطة.. وعندما ذهب بالتهديد إلى القسم أرسله رئيس المباحث إلى الشيخ «عرفة» ليتحقق من الشكوى ويحققها (والشيخ عرفة هذا كان أمير الجماعة الإسلامية في ديروط فى ذلك الزمن).. وكان ما كان بعدها من قتل الطبيب وسط أسرته فى ظل صمت مريب من أجهزة الأمن آنذاك.
وهذا جمال فرغلي هريدى الرامى المحترف والقاتل المتعمد لهؤلاء الأبرياء يزور له بعض الأطباء تقريرًا طبيًا يثبتون فيه أنه أعمى لا يستطيع الرؤيا ليفلت من العقاب.. وتخرج جريدة «الأهالى» فى اليوم التالي ومانشيت الصفحة الأولى يتحدث عن «أربع مفاجآت جديدة في مذبحة صنبو»، وعليه اسمى بالبنط العريض.. لم يكن أحد يعرف بمن فيهم رئيس التحرير، آنذاك، العظيم «فيليب جلاب» الذى أمر بمنحى مكافأة خاصة عن هذا الموضوع وكتب عنى وعن موهبتى فى عموده «دبوس» في الصفحة الأخيرة.. لم يكن يعرف أن صاحب السبق هو الطبيب الشاب «نصر الضوى» شقيقى الذى لم تلده أمى.
عندما بدأت محنته مع فيروس سى هاتفنى شقيقه عادل.. كانت صدمتى وصدمة أسرته شديدة.. ولم يكن هناك من حل بعد أن تفاقم الوضع سوى الجراحة وبدأت رحلة البحث عن متبرع بجزء من الكبد ثم إجراء العملية الجراحية ثم التعافي.. وفي الطريق إلى التعافى يأبى المرض اللعين إلا أن يهاجمه وكأن الحياة أبت أن تتركه ليعافر مع ملحمته الخاصة فى مساعدة الفقراء والمرضى ورسم الابتسامة على الوجوه المتعبة. ربما أرادت له أن يستريح قليلًا من عناء الذهاب يوميًا إلى مستشفى ديروط المركزى فى الصباح وإلى مباشرة مساعدة الفقراء من المرضى في عيادته في المساء مجانًا، ليرحل نصر فى صمت ودون أن يستطيع إدخار بضعة آلاف من الجنيهات تساعده على الانتصار على المرض اللعين بالحصول على الدواء المناسب له.. آخر الرحلة يموت الطبيب من المرض وهو يبحث باستماتة عن الدواء.. وهو «اللى كان لو جاله فقير.. يشوي قلبه الطيب ويحطوله في رغيف».
رحل نصر دون أن يعلم أننى أحببته أكثر من عادل شقيقه الأكبر.. وأن تندره الدائم باستبدالى صداقة عادل بصداقته لم تكن في محلها.. ليته يعرف الآن أنه أخذ قطعة من قلبى ورحل وأنه كان الأغلى والأقرب دائمًا إلى قلبى رغم تلك المسافات التى باعدت بيننا لسنوات طويلة.. عم سلامًا يا صديقي وسلم على الفقراء هناك وانتظرنى.