ومن المعروف أنه لم يحظ موضوع فنى وأثرى بهذا الزخم الهائل من الغموض والأسرار والحيرة، بل والزهو، مثلما حدث عند اكتشاف "وجوه الفيوم".
ويؤكد سيد الهويدي، الناقد الفني، أن بورتيرهات الفيوم تعتبر واحدة من أهم المكتشفات الأثرية بالقرن العشرين، وتناغمت، وتقاطعت هذه الأعمال مع محاور عديدة، منها العقائدى، والدينى، والأثرى، والفنى والتقنى في تماس نادر يكشف عن مسارات حضارية متنوعة في الزمن والتاريخ، وعكست مناخا فريدا لكيفية تبادل وتلاقي الثقافات بين شعوب المنطقة، ودوافع الهجرات البشرية، على خلفية فلسفة الموت والرغبة العارمة في الخلود.
بدوره أكد الدكتور ماجد الراهب رئيس جمعية المحافظة على البيئة، أن "البورتريه" امتداد للفن الجنائزى المصرى القديم، الذي كان يهتم بوضع صورة للمتوفى فوق المومياء حتى تتعرف عليها روح المتوفى، حيث كانت هذه اللوح تصنع في حياة الشخص وهذا هو السبب من ظهور مسحة الحزن فيها وكانت تصنع منها صورتان صورة توضع مع المتوفى وصورة تعلق في منزله، وهذا متواجد إلى الآن حيث توضع صورة المتوفى في قداس الأربعين بالكنيسة أثناء الصلاة ثم تعلق بعد ذلك في منزله.
"التمبرا".. تكنيك فن البورتيرهات
وأضاف: "يعتبر البورتريه من أصعب الفنون من حيث تكنيك العمل، ويعرف بالتمبرا، ويستخدم فيه زلال البيض والعسل الأبيض والألوان ولم يظهر لخارج مصر إلا في عصر النهضة".
وللأسف كثيرون ينسبون هذا العمل لليونانيين أو الرومانيين الذين عاشوا في مصر خلال فترة الجريك رومان، بعد دخول المسيحية مصر وهذا غير صحيح، حيث إنه لم يظهر ولو لوحة واحدة بأى مكان في العالم سوى مصر.
كما أن كل الوجوه المرسومة، مصرية خالصة، مثل السيدة الريفية وزيها المميز الذي كان يظهر بوضوح في تلك البورتيرهات.
أما عن أسباب الخلط بين بورتيرهات الفيوم والأيقونات البيزنطيه، فيشير "الراهب"، إلى أن هذا يعود إلى الصفات المشتركات بينهما خصوصا بتقنيات التنفيذ فالاثنان استخدما الخشب نفسه في عمل اللوحات، وطريقة التلوين الممثلة في التدرج من الداكن إلى الفاتح، والاعتماد على الألوان الأساسية (الأبيض، الأصفر، الأحمر الأسود).
بورتيرهات الفيوم ورحلة مع الزمان
يرجع
تاريخ "بورتريهات الفيوم" إلى الفترة ما بين منتصف القرن الأول وحتى
آخر القرن الرابع الميلادى، وعلى الرغم من ارتباط تلك اللوحات بمنطقة الفيوم وخصوصا
الجبانة الرومانية في هوارة، باعتبار أن واحة الفيوم هي مصدرها الرئيسى، حيث عثر
عليها عالم الآثار البريطانى فليندر بترى في العام1888، إلا أن أول مجموعة من وجوه
الفيوم وصلت إلى أوروبا اكتشفت في سقارة في العام 1615 بواسطة أحد النبلاء
الإيطالين عن طريق الصدفة، كما وجدت أمثلة عديدة منها في مناطق متفرقة من مصر
كأخميم، وعباده.
وكانت
الفيوم في الفترة من منتصف القرن الأول وحتى القرن الرابع يوجد بها العديد من
الجاليات الوافدة سعيا وراء حياة تتسم بالرخاء والوفرة التي تنعم بها الواحة، حيث
توافد على المكان الرومان والأفارقة والمهاجرين اليونانيين، وأجناس سامية عديدة
عاشوا معا، فقد كان هذا المجتمع المتعدد الأجناس نموذجا لتمازج الثقافات وبالتالى
جاءت لوحات وجوه الفيوم لتكشف عن هذا التنوع الغنى.
وإذا
كان الفن المصرى القديم لم يستدل فيه على الأسلوب الذي رسمت به وجوه الفيوم، إلا
أنها ظهرت بعد أن احتل اليونانيون مصر، وامتد هذا الأسلوب مع الاحتلال الرومانى.
ويتحدث إسحق حنا الفنان التشكيلى، الأمين العام للجمعية المصرية للتنوير، عن أسباب عدم
انتشارها والتركيز عليها، لافتا إلى أن ذلك يرجع إلى أن الفنانين الذين رسموها غير
معروفين، إضافة إلى بعثرة هذه الوجوه في العالم، كما أن أسلوبها الخاص دفع البعض
إلى الاعتقاد أنها ليست قديمة، ويصعب التصديق أنها لوحات أصلية، علاوة على أن
علماء الآثار البيزنطية رأوا أنها سابقة على الأيقونات.
واكتسبت
وجوه الفيوم أهمية كونها تعبر عن مزيج من المعتقدات الدينية المصرية والشعائر
الجنائزية اليونانية والأسلوب الفنى الرومانى، حيث كانت ترسم اللوحة الخشبية التي
تماثل الوجه البشرى إلا قليلا، بهدف أن توضع على وجه المومياء المحنطة بعد تكفينها
بالكتان أو الكارتوناج، لكن في بعض الأحوال كانت الوجوه ترسم مباشرة على الكفن.
ويستخدم
في صناعة تلك اللوحات اللوحات خشب جميز، الأرز، واللبخ، والسرو، والتين، والزيتون،
كما أن هناك أدله تشير إلى أن هذه اللوحات رسمت أثناء حياة الشخوص التي تجسدها
وهذا ما توضحه نوعية الملابس وتسريحات الشعر والحلى التي كانوا يرتدونها في هذه
الفترة.
كما
أن الطبيعية التي رسمت بها تجعلها وسيطا يتجاوز ما قدمته مجالات الأدب المختلفة،
وصفا لدقائق التاريخ كمرجعية بصرية أهدت للبشرية تسجيلا حيا لجانب من الواقع.
وأضاف
"حنا"، أن الرسامين الذين قاموا بعمل البورتريهات ربما كان الكثير منهم
فنانون جوالون مثل فنانى العصر الهيللينى، وكانت أدواتهم خفيفة، وإن كان بطبيعة
الحال هناك فنانون ظلوا يعملون في المدن التي يقيمون بها وقد أطلق عليهم اسم مصورو
الحياة.
وكشفت
بردية عن مقابل عمل الفنان قمح، أو نبيذ، فيما ذكرت بردية أخرى اسم الفنان
ديمتريوس الذي يعمل في سرابيوم، وتحدثت بردية عن مصور آخر اسمه آرتيميدوروس.
وعبرت
البورتريهات عن مضامين متعددة، تجمع بين الرقة والقوة واللطف والحدة، مع مسحة
رومانسية، خصوصا وأن نظرة عيون الشخصيات التي تطل علينا من هذه اللوحات تنظر
جميعها إلى نقطة لا نهائية خلف المشاهد وكأنها تخشى المصير المجهول بعد بعثها، أما
خلفية اللوحات فهى ذات ألوان غير محددة وقد جاءت كذلك تعبيرا عن الانتقال إلى عالم
جديد ليس للمادة فيه مكان والأشياء فيه غير محددة.
النظره
الساحرة لبورتيرهات الفيوم
تتميز
وجوه الفيوم بنظرات عيون ساحرة في غموض، فقد كشفت العيون البنية لوجه أحد الأطفال،
عن نظرة حائرة وكأنه ينتظر مصير لا يعلمه، أما لوحة ديموس صاحبة الوجه البيضاوى
المرسومة عليه علامات حزن ربما بسبب جلال اللحظة الفارقة بين الحياة والموت، ومع
ذلك ظهرت وقد صفف شعرها في خصلات صغيرة حول الجبهة، بينما تم تثبيت عقصة الشعر
الكبيرة أعلى الرأس بدبوس، كما ضمت هذه المجموعة صورة نادرة لشابين معا، وهى أيضا
اللوحة الوحيدة التي كتب عليها التاريخ وهو الشهر التاسع من التقويم المصرى، ورغم
تشابه الشابين، مما يوحى أنهما أخوين، إلا أن أنهما من جنس مختلف أب إغريقى وأم
مصرية.
وأخيرا
يجب الاعتراف بأن بورتيرهات الفيوم أحد الكنوز الأثرية العظيمة لمنطقة الفيوم التي
ضارعت الإسكندرية من حيث الأهمية الأثرية وتكاثر الجاليات الأجنبية كما يشير
النقاد الفنانين فهى مازالت تفيض بالحياة وكأنها تعيش بيننا ومن ينظر إليها يشعر
وكـنها تمتلكه وتحتويه وترمقه بنظراتها الحائرة الغامضة والغريب أن من يقترب منها
أكثر تزداد هي غموضا بل تنقله إلى عالم الماضى ورائحة تاريخ قديم يتسم بالجلال.