السبت 01 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومى يكتب: الصحافة فى عالم نجيب محفوظ.. ديوان الحياة.. الأداة الأكثر أهمية فى الرصد والتحليل للحياة الحقيقية التى يعرفها ملايين البشر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ونمضى مع المواطن المصرى العظيم نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب ١٣ أكتوبر ١٩٨٨.. إنه مبدع يتناول بعمق فنى أخاذ جوانب شتى من المسكوت عنه فى التناول النقدي، ونستعرض هنا جانبًا فى هذا الإطار، ممثلا فى رؤيته للصحافة والدور الحيوى المهم الذى تقوم به فى الحياة المصرية

 

الانصراف عن قراءة الصحف يعنى القطيعة مع الوطن والمجتمع ويضفى على الشخصية جهلًا مطبقًا  الصحفيون قوة عاملة فعالة يحتاجها المجتمع الإنسانى مثل غيرهم من القائمين على الأنشطة الجوهرية الضرورية

 

تناول أدب محفوظ، الذى اهتم فيه بالقاهرة القديمة التى سحرها فتواته فى طفولته، وكذلك تلك التى عاصرها شابًا، عناصر متعددة من شرائح المجتمع، وجسّدت عباراته أطيافا مختلفة من البشر بتنوع حيواتهم، متوغلًا فى كل عنصر وكاشفًا لجوانبه، ليترك لنا صورة خاصة عن تلك الشخصيات والعوالم وتفاصيلها، قد تصلح بدورها وجهًا من التاريخ. وهنا، نقدم جانبًا غاية فى الأهمية من الجوانب الإبداعية المتعددة فى عالم نجيب محفوظ، وهو الصحافة التى أفرد لها عددا كبيرا من القصص القصيرة والروايات.

يقدم عالم نجيب محفوظ شهادة بالغة الأهمية عن الموقع الذى تحتله الصحافة فى الحياة المصرية، فهى جزء أصيل من نسيجها، وذات تداخلات وتشابكات تتجلى فى مظاهر عديدة، وصولًا إلى أنه لا يسهل تخيل إيقاع الواقع اليومى المعتاد، بمعزل عن وجودها.

تتضمن الصحف صورة مكثفة للحياة فى شتى مظاهرها وأبعادها، ويمثل الصحفى عنصرًا اجتماعيًا فاعلًا لا يمكن إغفاله، الأقلية تستهين بالصحف وتنصرف عنها، والأغلبية تتواصل وتتفاعل بدرجات متباينة، ويرتقى بعض هؤلاء، فيراسلون الصحف لطرح الأسئلة وبث الهموم، أو طموحًا إلى النشر.

ولا يكتمل المشهد دون نظر إلى باعة الصحف، الذين يقومون بدور الوسيط بين منتجى السلعة الصحفية المقروءة ومستهلكيها.

ديوان الحياة 

قصة «فنجان شاي»، مجموعة «شهر العسل»، بمثابة الاستعراض الفنى بالغ الدقة والعمق لمحتويات صحيفة صباحية يومية، يطالعها مواطن عادى فى فراشه بمجرد استيقاظه، ويبدو واضحًا أنه طقس مألوف معتاد، وهو ما يتمثل فى قول القارئ لزوجه: «هذا وقت الشاى والجريدة فلا تفسدى على أطيب أوقات اليوم ».

يتحول المنشور فى الجريدة إلى مشاهدة حركية يتابعها المواطن العادى الذى يعبر عن الكتلة الجماهيرية الساحقة، ومواد الصحيفة – فى إيجاز- هى كل ما تحفل به الحياة من أحداث محلية وعالمية فى شتى المجالات، السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية: نجوم السينما، الحرب الأمريكية الفيتنامية، المرأة التى تلد ستة توائم، الصراعات الاقتصادية الطاحنة بين العملات العالمية ذات النفوذ، ثنائية الكتب التراثية والخمور فى ساحة الإعلان، غزو الفضاء، المعارك الأيديولوجية الطاحنة بين الرأسمالية والشيوعية، طوفان الاكتشافات العملية المذهلة، الشح النسبى فى الإنفاق على البحوث التى تتصدى لعلاج الأمراض الخطيرة، سوق العمل واحتياجاته المتباينة، الهاربون من الأهل، جرائم الشرف، علاقة التوتر والصدام بين الغناء الأوبرإلى والبلدي، الاشتباكات بين الشرطة والطلاب، الزنوج ومعاناتهم من التمييز العنصري، القضية الفلسطينية وأبعادها، صفحة الوفيات، المقالات بالغة التعقيد.

الحياة الحقيقية التى يعرفها ملايين البشر، مزيج معقد من المفردات السابقة جميعًا، وما الصحافة إلا الأداة الأكثر أهمية فى الرصد والتحليل.

الصحافة مهنة ذات أصول وتقاليد، يمتهنها محترفون متفرغون لعملهم، وفى قصة «الحجرة رقم ١٢»، مجموعة «الجريمة»، يتوافد الزوار على غرفة السيدة بهيجة الذهبي، وبالتأمل فى مهن هؤلاء، يسهل اكتشاف تعبيرهم عن الأغلب الأعم من فئات المجتمع المصري، فمنهم على سبيل المثال: «صاحب معرض أثاث وبقال وقصاب وصاحب محل عطور وأدوات زينة وموظف كبير بمصلحة الضرائب ورئيس مؤسسة وصحفى معروف وتاجر جملة للأسماك وسمسار شقق مفروشة ووكيل شخصية عربية من أصحاب الملايين».

منظومة متكاملة يمثل أعضاؤها عينة دالة لخريطة المجتمع المصري، والصحفى جزء أصيل من هذه المنظومة.

الصحافة إذن بمثابة ديوان الحياة اليومية، والصحفيون قوة عاملة فعالة يحتاجها المجتمع الإنساني، فى مصر وغيرها من البلدان، احتياجه إلى الموظف والتاجر والبقال والقصاب والسمسار، وغير ذلك من القائمين على الأنشطة الجوهرية الضرورية.

خريطة الإشباع

لا تتوانى الصحف عن نشر تفاصيل الحياة ونثرياتها التى تحظى بالاهتمام الجماهيرى الواسع، ومن هنا يشتد الاحتياج إليها عند قطاعات شعبية عريضة، فضلًا عن الدور الذى تلعبه الصحيفة فى التسلية وقطع الوقت.

فى «بداية ونهاية»، التى تدور أحداثها فى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، إشارة إلى اهتمام الصحف بنشر نتائج امتحانات الشهادات العامة مثل البكالوريا: «وعندما تناول حسين الجريدة من البائع وأجرى بصره الزائغ فى صفحاتها باحثًا عن نمرته، التف به أخوه وأخته وأمه بقلوب خافقة ينبض فى أعماقها الأمل ويظلها الخوف والعذاب، فانطبعت اللحظة الرهيبة على نفوسهم إلى الأبد».

وفى قصة «من مذكرات شاب»، مجموعة «همس الجنون»، يكتب الشاب صاحب المذكرات: «علمت أنى أخترت بين أعضاء البعثة، وعما قليل تُعلن أسماؤنا فى الصحف».

وفى قصة «موجة حر»، مجموعة «بيت سيئ السمعة»، يقول مرسى لصاحبه: «لن تُعرف حقيقة اليوم إلا فى جرائد الغد، كم تظن درجة الحرارة؟».

تتابع الصحف كل ما هو جدير بالاهتمام فى الحياة اليومية، وانشغالها بنتائج الامتحانات وأخبار البعثات ودرجات الحرارة، أمثلة دالة تنم عن طبيعة الخدمات المباشرة التى تؤديها وتحظى باهتمام الكثيرين. وعندما يتهدد المجتمع بمخاطر الغزو الفئرانى فى قصة «الفأر النرويجي»، مجموعة «التنظيم السري»، يعقد سكان العمارة اجتماعًا موسعًا لمناقشة خطر الفئران: «ويبدأ الداعى بصوت ملؤه الجدية «تعلمون..» ثم يسرد ما تردده الصحف عن زحف الفئران وأعدادها الهائلة وتخريبها البشع».

العاديون من الناس، وهم الأغلبية الساحقة، يجدون فى المواد الصحفية المتنوعة إشباعًا لاحتياجاتهم المتجددة، ويتابعون الأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، متابعتهم لما هو أبسط وأقل خطورة. مثل هذا الخليط المتنوع، يجعل من القراءة أداة للتسلية فى ساعات الفراغ، حيث يشتد الاحتياج إلى ما يقطع الوقت ويقاوم الملل.

قراءة الصحف فى المواصلات العامة، مثل الأتوبيس والقطار والمترو، ظاهرة شائعة، فهى أداة فعالة للتسلية.

فى «بداية ونهاية»، ينشغل حسين كامل بنفسه، فى القطار الذى يستقله إلى طنطا لاستلام وظيفته: «ولاحت منه التفاتة إلى يساره فوجد الأفندى الذى كان يتصفح الجريدة قد طواها ونظر إليه نظرة من ضاق بالوحدة والصمت».

وفى المترو الذى يتجه بأحمد عاكف إلى حلوان، فى «خان الخليلي»، ينفق الموظف البائس وقته «بالحديث مع كمال خليل تارة، وبقراءة الأهرام تارة أخرى».

وأحمد نفسه هو من يتسلى بقراءة الصحيفة، انتظارًا لانطلاق مدفع الإفطار فى رمضان: «وكان أبقى الأهرام بغير قراءة ليتسلى بمطالعته فى الساعة الأخيرة المعروفة بشدتها وثقلها فأكب عليه حتى فرغ منه، ونظر فى الساعة، فعلم أنه لا يزال عليه أن ينتظر نصف ساعة أخرى».

وفى قصة «أيوب»، مجموعة «الشيطان يعظ»، يقول الطبيب صبرى حسونة للمليونير المشلول عبدالحميد حسني: «عليك أن تتزوج من الصبر، لا تتصور أن حجرة نومك زنزانة، كلا، لديك الراديو والتليفزيون والجرائد والمجلات».

يلتزم المليونير طريح الفراش بالنصيحة، وتكتسب هذه الوسائل الإعلامية المعتادة مغزى جديدًا فى حياته: «حُملت إلىّ الجرائد والمجلات، عربية وإنجليزية وفرنسية، إنى أقرأ أيضًا لأول مرة، كنت قبل ذلك متصفحًا للعناوين لا تجذبنى إلا أنباء السوق والأسعار والأوراق المالية».

للصحافة وظائفها المتشعبة المشبعة، وغالبية من يجيدون القراءة يقبلون على الصحف ويتواصلون معها، لكن الأمر لا يخلو من زاهدين ومنصرفين ولا مبالين.

الانصراف والزهد

"كامل رؤبة لاظ"، فى «السراب»، واحد من الذين ينفصلون عن المجتمع وهمومه: «ومن أجل ذلك أنى لا أحفل بشيء فى الدنيا إلا نفسى وما يتصل بها من قريب، ومن أجل ذلك أيضًا أنى لا أقرأ الجرائد على الإطلاق! ولشد ما كانت دهشة زملائى من الموظفين عظيمة حين تبين لهم اتفاقً بأنى أجهل اسم رئيس الوزراء وقتذاك بعد أن مضت أشهر على توليه الحكم.

وراحوا يتندرون بجهلى كثيرًا وأنا صامت كظيم، وكأنى لست من هذا المجتمع، فلا أدرى شيئًا عن آماله وآلامه، قادته وزعمائه، أحزابه وهيئاته، ولكم طرقت أذنى أحاديث الموظفين عن الأزمة الاقتصادية وهبوط أسعار القطن وتغيير الدستور، فلم أكن أفقه لها معنى أو أجد لها فى نفسى صدى، لا وطن لى ولا مجتمع».

الانصراف عن قراءة الصحف يعنى القطيعة مع الوطن والمجتمع، ويضفى على الشخصية جهلًا مطبقًا، لا يعرف كامل اسم رئيس الوزراء، ولا علم له بالقادة والزعماء والأحزاب والهيئات، ولا متابعة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، ذلك أن الصحافة هى المصدر الأهم للإحاطة بهذه المعارف جميعًا.

لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لعبدالخالق مراد فى قصة «صباح الورد»، فهو قانع بسخطه وجهله: «ولعله الوحيد- أو أحد اثنين – فى شلتنا كلها الذى قبع فى قوقعة محكمة من الأمية العقلية، فلم ينظر طوال حياته فى كتاب أو مجلة- عدا المقررات الدراسية – ولم يستطع أن يفرق بين العقاد المفكر والعقاد التاجر بالسكة الجديدة. واكتشفنا فى زمن متأخر نسبيًا أنه يعتقد أن النيل مرادف للنهر، فيوجد نيل فى إنجلترا ونيل فى العراق إلخ..».

الأمر هنا لا يتعلق بالشهادة الدراسية، فـ"كامل رؤبة لاظ" من حملة البكالوريا، وعبدالخالق متخرج فى مدرسة التجارة المتوسطة؛ لكنها «الأمية العقلية» التى تستطيع الصحف معالجتها بما تنشر من الأخبار والمعارف والمعلومات.

وفى «حديث الصباح والمساء»، ينحصر حازم سرور عزيز فى ذاته بلا هدف، إلا الطموح إلى التفوق الدراسي: «لا يعرف اسم رئيس الوزراء ولا ينظر فى الصحف ولا تصل إلى وجدانه أى موجة من بحر الأحداث التى يضطرب بها الوطن».

وفى قصة «خطة بعيدة المدى»، مجموعة «الفجر الكاذب»، يعيش عصام البقلى فى قطيعة كاملة مع الحياة: «وهو لم يقرأ فى حياته جريدة ويتلقى معلوماته دون اكتراث فى مجالس الأصحاب».

لا يختلف حازم، طالب الهندسة، عن عصام الذى لم ينل حظًا من التعليم، فالجهل المطبق هو المشترك الذى يوحد بينهما.

كامل رؤبة وعبدالخالق مراد وعصام البقلى وحازم سرور، على الرغم من الفوارق الشاسعة بينهم، لا يملكون الحد الأدنى من الثقافة والوعي، ولا صلة لهذا بالشهادة الدراسية والمكانة الاجتماعية والموقع الاقتصادي، فهم أقرب إلى الانقطاع عن الحياة ومجرياتها، والانصراف عن قراءة الصحف هو ما يجمعهم ويوحدهم.

ومن ناحية أخرى، فإن الحرص على شراء الصحيفة لا يعنى بالضرورة قراءة متأنية جادة لمحتوياتها، ومن ذلك ما نجده فى قصة «الموعد»، مجموعة «دنيا الله»، فرب الأسرة جمعة لا يهوى القراءة، وكذلك زوجه: «كان يلقى نظرة عجلى على الجريدة، وتقرأ هى صفحة ثم تتركها فتتلقاها لولو ثم لا تتركها إلا كومة من مزق».

نظرة سريعة بلا اهتمام أو تركيز من الزوج، وقراءة عابرة من الزوجة، ثم تتكفل الطفلة بتمزيق الصفحات!

وفى قصة «الفجر الكاذب»، يقدم الراوى اعترافًا يبرر جهله الكامل بمشاكل مصر والعالم: «لا أقرأ من الصحيفة إلا الإعلانات والوفيات وأين تذهب هذا المساء»، ويرد الطبيب ناصحًا: «ما عليك إلا أن تقرأ الصحف وستمدك بمشكلات لا حصر لها».

القراءة السطحية هى الوجه الآخر للانصراف والمقاطعة، فالمحصلة واحدة: العجز عن معايشة الواقع ومتغيراته، لكن المعايشة بدورها قد تقود إلى اتخاذ قرار بالتوقف عن القراءة، لمزيج من الظروف الذاتية والموضوعية المباغتة.

الرأسمالى المحاصر بالتأميم والقوانين الاشتراكية فى قصة «حلم»، مجموعة «خمارة القط الأسود»، يعيش فى أزمة مبررة بتخوفه من التحولات الجذرية فى المجتمع المصري: «وقرأ ذات صباح اسم السنى بين أسماء الناجحين فى انتخابات مجلس الإدارة فهتف بحنق شديد:

- صاحب الحلم الفاجر!

وأضرب عن قراءة الصحف».

التوقف هنا قرار محسوب لتجنب قراءة ما يسىء ويزيد من حالة التوتر النفسي، ومفردة «الإضراب» بالغة الدلالة فى تعبيرها عن النزعة الاحتجاجية.

الصحافة بديلًا 

قد تحول ظروف الحياة وضغوطها دون قراءة الكتب والانخراط فى ساحة الأنشطة العامة، السياسية والاجتماعية والثقافية، لكن متابعة الصحف تمثل الحد الأدنى الذى يتيح التواصل والتفاعل مع معطيات الواقع، الاستسلام للهموم اليومية يعنى تنازلات بلا نهاية، وفى قصة «أيوب»، مجموعة «الشيطان يعظ»، يقول الطبيب المثقف جلال أبو السعود، فى سياق الدفاع عن رفضه لفكرة امتلاك عيادة خاصة، حتى لا تشغله عن الثقافة: «أعرف أطباء لا يجدون وقتًا لتصفح الصحف».

وفى قصة «الميدان والمقهى»، مجموعة «الفجر الكاذب»، ما ينم بوضوح عن أهمية الصحافة فى تغطية كل الأحداث الجديرة بالاهتمام، أما الاستثناء النادر فهو الغياب: «ويتبادل رواد المقهى نظرات حائرة: 

- ماذا حصل للدنيا؟

- ها هى الجرائد ليس بها شيء.

- ولكن فى الجو شيء ولاشك».

تقوم الصحافة إذًا بدور البديل للوسائل الثقافية والسياسية الأكثر تخصصًا وعمقًا، ولعل الجادين الراغبين فى المعرفة والتواصل هم الذين يجدون فى الصحف أداة لتحقيق التوازن المفقود، بفعل تراكم الأعباء والمسئوليات.

نادر برهان، فى «المرايا»، زعيم طلابى ذو نشاط سياسى دءوب، وتنتهى رحلة نضاله بالسجن والانقطاع الاضطرارى عن التعليم والتفرغ للعمل التجارى الخاص، لكنه يبدو حريصًا على متابعة الأحداث، وعلى حد تعبيره: «لعلى السماك الوحيد الذى يفلى الجريدة قبل أن يقول يا فتاح يا عليم..». 

وينشغل صادق صفوان، فى «قشتمر»، بدكان الخردوات الذى يتحول إلى محور نشاطه بعد الحصول على البكالوريا: «أما السياسة والثقافة فتراجعتا إلى هامش حياته. قال له حمادة الحلواني:

- حياتك الراهنة لا تتسع للقراءة..

فقال صادق آسفًا:

- الجريدة على الأكثر، وقد أقرأ مقالًا فى المجلة».

وفى الرواية نفسها، تتفرغ رئيفة لحياتها الزوجية مع الشاعر والصحفى طاهر عبيد: «وبدافع من حبها واعتزازها بزوجها عودت نفسها على النظر فى الجريدة والمجلة».

وفى قصة «الربيع القادم»، مجموعة «الشيطان يعظ»، تتراجع قدرة المدرسة المتقاعدة جمالات على القراءة الجادة، ذلك أن ضغوط الحياة تحاصرها، وتحول دون اتساع الوقت للقراءة: «إلا وقت قصير تتصفح فيه الجريدة أو كتابًا من المكتبة التى كونتها – هى وزوجها- منذ أيام اليسر».

نادر وصادق ورئيفة وجمالات، منشغلون بمسئوليات جسام، ولا متسع من الوقت لممارسة النشاط الثقافى والاندماج فى تيار الحياة العامة، ولا بديل أمامهم إلا الصحف والمجلات، حيث الحد الأدنى للاستمرار فى قلب الأحداث.

الأغلبية القارئة 

الأغلب الأعم فى عالم نجيب محفوظ، كما هو الحال فى الواقع، يقبلون على قراءة الصحف لأسباب مختلفة ودوافع متباينة، وتتضمن المجموعة القصصية الأولى للكاتب الكبير: «همس الجنون»، إشارات عديدة إلى شخصيات متنوعة تقترن بفعل القراءة.

رضوان بك، فى قصة «ثمن السعادة»، حكمدار متقاعد، يراه الطالب الجامعى الذى يعطى دروسًا خصوصية لابنه، وهو فى الشرفة: «يجلس مطمئنًا إلى كرسيه فى جلباب فضفاض يطالع جريدة ويهش الذباب عن وجهه بمذبة».

وفى قصة «حياة للغير»، يجلس عبدالرحمن أفندى فى حديقة منزله: «وبسط جريدة من جرائد المساء كانت مطوية تحت إبطه ومضى يطالع».

وفى قصة «فلفل»، يجتمع الطلبة فى القهوة: «فإذا اجتمع شملهم وفرغوا من احتساء الشاى والزنجبيل قرأ أحدهم جريدة من جرائد المساء وأنصت له الآخرون ثم يندفعون إلى المناقشة والتعليق فيحتدم الجدل وتستمر المناقشة».

الحكمدار المتقاعد والموظف الصغير والطلبة الشباب، فى الشرفة وحديقة المنزل والقهوة، ينشغلون بقراءة الصحف، وتتحول المادة المنشورة فيها إلى موضوع للمناقشة والحوار والجدل الصاخب، عندما يكون الأمر جماعيًا.

الانتظام فى قراءة الصحف اليومية بمثابة العادة الشائعة عند الكثيرين، والأستاذ حسن وهبي، المدرس المتقاعد فى قصة «ضد مجهول»، مجموعة «دنيا الله»، واحد من هؤلاء. تشهد الخادمة أم أمينة على طقوسه التقليدية المعتادة، قبل أن يُقتل فى جريمة غامضة مجهولة الأسباب: «كان أمس بصحة جيدة، قرأ الجريدة، وتلا جزءًا من القرآن بصوت مسموع، وعندما تركت الشقة كان يستمع إلى الراديو».

قراءة الصحف وتلاوة القرآن الكريم والاستماع إلى الراديو، مفردات شائعة فى حياة حسن وهبى وغيره.

وفى قصة «الرجل القوى»، مجموعة «القرار الأخير»، يعيش السيد طيب المهدى حياة التقاعد الهادئة المألوفة: «ولم يبق له إلا السمر مع زوجته ومؤانسة التليفزيون وقراءة الصحف وسماع القرآن فى إذاعته الخاصة».

وعامر عمرو عزيز، فى «حديث الصباح والمساء»، يعيش حياة تقاعد هادئة: «وحافظ الرجل على صحته وحيويته، يقرأ الصحف والمجلات، ويسمع الأغاني، ويشاهد التليفزيون».

ومن علامات تميز الموظف عبدالقوى البيه فى قصة «أسعد الله مساءك»، مجموعة «صباح الورد»، أنه قارئ للصحف: «يداوم على قراءة الجريدة اليومية والمجلة الأسبوعية المصورة».

طوائف شتى تجتمع تحت راية قراءة الصحف، والتقاعد عن العمل الوظيفى لا يعنى إلا مزيدًا من الاهتمام لملء الفراغ وقطع الوقت، وهو ما يمثل امتدادًا لسلوك أصحاب المعاشات أنفسهم أثناء سنوات الخدمة، بل إن بعض الموظفين يقومون بعملهم الرسمى على متابعة الصحف والانشغال بالرد على ما تنشره من شكاوى وانتقادات.

وللحديث بقية..