قضيت في إنجلترا سبع سنوات بين أعوام ١٩٩٧ و٢٠٠٣. كان النصف الثاني من شهر ديسمبر، خاصةً الأسبوع الأخير (أسبوع الاحتفال بأعياد الميلاد والعام الجديد)، هو أسبوع الزينة والبهجة والسرور، أشبه مايكون بالنصف الثاني من شهر رمضان الكريم والاحتفال بعيد الفطر المبارك في مصر. هذه الأجواء الاحتفالية، كانت تتجلي فيها مظاهر الإنسانية والتراحم حيث يتجمع كل افراد الاسرة للاستمتاع بجو عائلي ربما لايتكرر الا مرة واحدة كل عام. كانت تسود اجواء من المودة والتقارب بين الجميع، بغض النظر عن اللون والجنس والديانة. كنت طبيبًا شابًا يدرس ويعمل وسط الزملاء من كل دول العالم، ومن كل الاجناس والديانات في مجتمع متعدد الثقافات (كوزموبولتاني). خلال الاحتفال بأعياد الميلاد، عايشت أجمل مافي الانسان، عندما تسمو روحه وتطيب نفسه وترتفع فوق البغضاء والشحناء، وتشعر في هذا الجو الشتوي قارس البرودة، بدفء المشاعر وعظمة الخالق أن منح للبشر هذا التنوع والاختلاف، والف بينهم حتي كادت ان تتلاشي بينهم الفوارق ويسود بينهم الحب والتسامح.
ذكريات احتفالات الكريسماس في انجلترا، كثيرة ومتعددة، وكلها تحمل طابعًا فكاهيًا، حيث كنا نلتقي في المستشفيات مع زملاء من كل دول العالم، وتدور بيننا مناقشات تتطرق لكل الجوانب الثقافية والدينيه والسياسية، وسط ديكورات وانوار وأجواء احتفالية مبهجة.
في هذه الاجواء، كانت الغالبية العظمي من الاطباء الانجليز لا يرغبون في العمل في ايام عيد الميلاد خاصة ايام ٢٤ -٢٧ ديسمبر، وأول يناير. وكان كل منهم يتمني ان يقضي هذه الايام مع اسرته مهما كلفه ذلك. وكانت هذه فرصة لنا نحن الاطباء من الدول الاخري (overseas doctors)، خاصة من اصحاب الديانات غير المسيحية مثل المسلمين والهندوس والعديد من الديانات الاخري، حيث كنا نقوم بالعمل كطبيب بديل (locum doctor) في المستشفيات بسعر مرتفع عن باقي الأيام.
في مرة جاء زميل انجليزي وقال، أسرتي كلها مجتمعة في العيد وأنا محبط لأني نوبتجي في طوارئ الولادة، ولا أجد اي بديل، فهل تساعدني؟ قلت بالطريقة المصرية تدفع كام؟ قال ادفع ضعف قيمة اليوم! قلت مفيش أي مشكله، انا هااستبدل معك النوبتجية واشتغل يوم ٢٥ ديسمبر ومن غير فلوس كمان! الزميل لمعت عيناه وقام يشكرني وكأني قدمت له خدمة عظيمة وأبلغ اسرته في الحال بأنه سوف يقضي معهم يوم العيد. في الواقع كان الزميل هو من قدم لي خدمة جليلة، حيث كان يوم العيد (٢٥ ديسمبر) يومًا جميلًا في كل شئ! جلسنا في جو احتفالي جميل في المستشفي، نأكل من الطعام الذي احضرته الممرضات! ونلهو ونشاهد التليفزيون ولم يحضر أي مريضة طوال اليوم!
كنا، أطباء (أنا وطبيب هندي "هندوسي" وأخر باكستاني "مسلم" والأخير من الصين "كونفوشيوسي" و٣ ممرضات إنجليز (مسيحيات)، ورئيسة التمريض وكانت (يهودية). جاءت ممرضة ومعها ٣ شرائط فيديو لافلام لاختيار احدها للمشاهدة (هذه عادة انجليزية ان تلتقي الاسرة لمشاهدة فيلم معًا)، وكانت المفاجأة ان الافلام الثلاثة كانت لعمر الشريف (فتاة مرحة، ودكتور زيفاغو، ولورنس العرب). واتفقن علي مشاهدة فيلم فتاة مرحة. بعد مشاهدة الفيلم، وجهت رئيسة التمريض سؤالًا اليً قائلة؛ أظن ان عمر الشريف مصري؟ قلت نعم. قالت هل هو مسلم؟ قلت نعم. قالت وهل وُلد مسلمًا ؟ قلت لا، كان مسيحيًا وأسلم لكي يتزوج فاتن حمامة. قالت؛ ولماذ لم يتزوجها وهو مسيحي ؟ قلت: لايجوز زواج المسلمه من غير ديانتها. قالت وهل يمكنك انت ان تتزوج من مسيحية؟ قلت نعم يجوز. قالت؛ أليس هذا ظلمًا علي المرأة؟ قلت ولكن الإسلام كّرم المرأة ومنحها حقوقًا لم تمنحها لها أي ديانة اخري.
بعد هذا الحوار تدخل كل الحضور من الديانات (الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية والكنفوشسيه) في حوار عن الاديان والثقافات المختلفة وحقوق الانسان واستمر النقاش عدة ساعات.
أثناء الحوار اكتشفت ان كل التعاليم الدينية تشترك في القواعد العامة، التي يتفق عليها كل البشر، وتقرها كل القوانين الدولية، وهي قواعد الصدق والعدل والمساواة وفعل الخير والوقوف بجانب الضعيف واحترام حقوق الطفل والمرأة والمسن وعبادة الخالق. رغم اختلاف الرسول الذي قام بتلبيغ الرسالة حسب الحقبة التاريخية التي ظهر فيها، الا ان الجوهر لكل الاديان واحدًا.
وعندما جاء ذكر الاديان السماوية الثلاث، اتفق الجميع، ان مصر كانت الارض التي نشأ فيها موسي عليه السلام، وظهرت فيها اليهودية. وأن مصر هي التي استقبلت عيسي عليه السلام، مع امه مريم العذراء، وهي من قدمت الحماية للمسيحين الاوائل من اضطهاد الرومان، وأن مصر هي الدولة التي حافظت علي الإسلام طوال تاريخها ومنعت غزو الصليبين والتتار من القضاء علي الاسلام والمسلمين في العصور الوسطي. وان الازهر هو الذي حافظ علي الاسلام الوسطي المعتدل وتصدي لارهاب المتطرفين الذين يشوهون جوهر الاسلام السمح.
وفي نهاية هذا اليوم الجميل، قالت رئيسة التمريض، لقد فازت مصر في هذا اليوم أكثر من اي دولة اخري، حيث شاهدنا عمر الشريف، وعرفنا ان مصر ليست الاثار الفرعونية فقط، وإنما هي مهد الديانات، وأصل الحضارات.
قلت بكل فخر "مصر ام الدنيا".
عيد ميلاد سعيد وعام جديد، وكل عام وحضراتكم جميعا بخير وصحة وسعادة.
*رئيس جامعة حورس