تُشكل مخصصات الدفاع والأمن القومي لحلف شمال الأطلنطي"الناتو" قضية مركزية لبلدانه الأعضاء – 31 عضوا – وذلك منذ تدشين الحلف في الرابع من أبريل من العام 1949 كآلية دفاع جماعي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة، ثم الحرب على الإرهاب والصراعات الإقليمية في وقتنا الراهن.
ومع اقتراب موعد انعقاد قمة الناتو السنوية في فيلينوس عاصمة جمهورية ليتوانيا هذا الشهر، وكذلك اقتراب موعد احتفالات الناتو بذكرى تأسيسه الخامسة والسبعين المقرر إجراؤها في العاصمة الأمريكية واشنطن في ابريل من العام القادم، عادت قضية التمويل الدفاعي والإنفاق العسكري إلى واجهة نقاشات خبراء "الناتو" وهو ما عبر عنه تقرير مفصل صدر عن "منصة الحوار" في مركز أبحاث الناتو.
ويقول خبراء مركز أبحاث الناتو إن الحرب الروسية الأوكرانية قد وضعت حلف شمال الأطلنطي أمام اختبار عسكري حقيقي، حتى وإن كانت أوكرانيا تخوضه بالوكالة عن الحلف الذي يعد داعمها الأول، فبحسب الدراسات الصادرة عن مركز أبحاث حلف شمال الأطلنطي، شهدت الأعوام العشرة الماضية صعودا في معدلات الإنفاق الدفاعي للدول التي يصنفها الحلف كأعداء استراتيجيين له وهما روسيا التي زاد إنفاقها الدفاعي بنسبة 227% والصين التي زاد إنفاقها واستثماراتها الدفاعية بنسبة 566%.
وفي المقابل لم تزد حصيلة الإنفاق الدفاعي لدول حلف شمال سوى بنسبة 22 في المائة فقط مما يضع استثمارات الدفاع الغربية في موضع غير متكافئ مع استثمارات الدفاع الصينية والروسية ومن في فلكهما من دول.
وتشير البيانات الصادرة عن حلف شمال الأطلنطي - الذي تأسس بسبعة أعضاء فقط قبل 74 عاما زادوا إلى 26 عضوا عام 2015 وأصبحوا الآن 31 عضوا بعد انضمام فنلندا – إلى أن متوسط الإنفاق العام لدوله الأعضاء مع زيادة عدد أعضائه بات ما يعادل عمليا نسبة 5ر1% وليس 2% من مخصصات الدفاع المحتسبة على أساس النواتج الإجمالية الكلية للدول.
ويتوقع خبراء مركز أبحاث حلف شمال الأطلنطي أن تكون نقاشات قمة قادة "الناتو" في ليتوانيا هذا الشهر وكذلك في قمتهم في العيد الـ75 لمولد الناتو في واشنطن العام القادم حاسمة في تقرير مستقبل زيادات الإنفاق الدفاعي للحلف أو تثبيت نسبتها إلى الناتج المحلي الكلي لدوله الأعضاء وذلك بعد ارتفاع كلفة فواتير عمليات التدريب والإمداد بالأسلحة والذخائر لدعم صمود الجبهة الأوكرانية أمام آلة الحرب الروسية الجبارة.
ويؤكد الخبراء أن خبرة الحرب الروسية الأوكرانية مغايرة تماما عن خبرة الأعوام العشرين الماضية في عمل الحلف والتي تركزت على التوسع في عمليات مكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات في مناطق العالم المتوترة ومواجهة جيوش غير نظامية، كما تختلف تجربة الناتو حاليا عن تجربتها إبان الحرب الباردة حيث كانت المواجهة في تلك الفترة "باردة بطبيعتها" مع حلف "وارسو" الذي كان يتبع الكتلة السوفيتية، والآن صارت الحرب الأوكرانية تشكل "حربا ساخنة" وحقيقية يتحمل الناتو أعباءها وما تقتضيه من إنفاق دفاعي أكبر لتأمين حدود الحلف الشمالية والشرقية.
وكشف استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث حلف شمال الأطلنطي العام الماضي على عينة محايدة من الخبراء العسكريين ومسؤولي الناتو الدفاعيين ومسئولين في المجمع الصناعي العسكري للناتو عن تأكيد 74% (مقابل 70% خلال استطلاع العام 2021) من المستطلعة آراؤهم على حاجة الناتو إلى زيادة إنفاقه الدفاعي أو تثبيتها لما لا يقل عن النسبة الحالية (2% من النواتج المحلية الإجمالية).
وكشفت الدراسة عن أنه ما بين مطالب بزيادة الإنفاق الدفاعي للحلف على وقع حرب لم ينقشع غبارها حتى الآن بين روسيا وأوكرانيا على حدود أوروبا الشرقية وتطال دوله الغربية، وما بين مطالبة بخفض الإنفاق الدفاعي وبخاصة من حكومات الدول حديثة الانضمام في شرق أوروبا ذات الاقتصاديات الأقل نموا مقارنة ببلدان الناتو الأعضاء في غرب أوروبا، انقسمت مواقف الدول الأعضاء في الناتو ما بين ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي لدول الحلف ومخصصاته من نواتجها المحلية الكلية، أو تثبيت الإنفاق الدفاعي للحلف عند مستواه الحالي وهو 2%.. وفي كل الحالات صار خيار تقليص الإنفاق الدفاعي للحلف "غير مطروح" الآن.
في قمة الناتو عام 2014 التي استضافتها مدينة ويلز البريطانية، وعلى خلفية قرار روسيا لشبه جزيرة القرم، شعر قادة الناتو بالتهديد وكان عدد أعضاء الحلف آنذاك 28 دولة فقط، وأقر دول الحلف توجيه نسبة 2% من الناتج المحلي الكلي لكل دولة عضو صوب الإنفاق الدفاعي وعليه بلغت موازنة الدفاع لحلف شمال الأطلنطي لعموم بلدانه 350 مليار دولار أمريكي وظلت تلك النسبة المخصصة للإنفاق الدفاعي (2%).
الآن وبعد انقضاء ثمانية أعوام متتالية.. لا تزال تلك النسبة معمول بها وذلك في خضم انتقادات كبيرة سبق لإدارة ترامب السابقة توجيهها للحلف - وأيدته في ذلك كندا - من تحملهما الجانب الأكبر للإنفاق الدفاعي للناتو بالنظر إلى ضخامة الاقتصادين الأمريكي والكندي.
إلا أن تطور الأوضاع في شرق أوروبا وما انتهى إليه الأمر من نشوب الصراع الروسي الأوكراني في فبراير 2022 قد أسدل الستار على التجاذبات المتباينة تجاه قضية تمويل الإنفاق الدفاعي للناتو ما بين ضفتي الأطلنطي الأمريكية والأوروبية، وخلال الحرب العالمية الثانية كانت معدلات الإنفاق الدفاعي لدول الحلف تقدر بنسبة 3 في المائة من ناتجها المحلي الكلي، وتراجعت النسبة إلى 2% خلال فترة الحرب الباردة، كما تقلص الإنفاق الدفاعي العام للحلف بنسبة 20 في المائة على خلفية الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008.
وانتهت دراسة مركز أبحاث حلف شمال الأطلنطي إلى أن قادة الحلف سيؤكدون في قمتهم القادمة هذا الشهر في ليتوانيا على الالتزام بتثبيت نسبة إسهام دوله الأعضاء في مخصصات الدفاع الجماعي عند مستواها الحالي وهو 2% مع تحقيق زيادة في الحصيلة الكلية للإنفاق الدفاعي بنسبة 20 في المائة وتوجيهها صوب برامج التدريب وتحديث الذخائر والعتاد العسكري وتحقيق تعاون أكبر في الاستثمارات الدفاعية بين الحلف والاتحاد الأوروبي.