"هيكل يبحث عن فرعون"، كتاب يدعوك إلى التخلص من حساسيتك المفرطة وأنت تقرأ عن "هيكل" الأستاذ، صاحب الكتاب يعترف أنه كان غارقا في الوهم لسنوات وهو يقرأ بشغف كل ما تخطّه يد الأستاذ الذي صار رمزا صحفيا يقترب من القداسة.
الصحفي أيمن شرف - في كتابه الجديد الصادر عن دار "سما" للنشر والتوزيع - يحاول أن يتخلص هو وجيله من عقده تناول "هيكل" نقديا، فإزاحة القداسة عن رمز "الأستاذ" ليس بالأمر السهل، لأن كتابه كما يصفه الصحفي عبد الله السناوي مجرد "خربشه على منصة تمثال هيكل"، وليس "شرف" هو الوحيد الذي عانى منذ سنوات من كسر هذا التابوه الذي يتعلق بالحديث عن هيكل، ولكن سبقته كثير من الأقلام التي كانت بارزة ولديها ثقل ولم تجرؤ على أن توجه له النقد، مثل الراحل إحسان عبد القدوس الذي رفض "موسى صبري" - حين كان رئيسا لتحرير أخبار اليوم - أن ينشر له مقالا ينتقد فيه "هيكل"، وظل المقال مرفوعا من الطبع حتى احتكم "موسى صبري" إلى الرئيس السادات الذي حسم الجدل فيما بينهما وأقنع الأخير بنشر المقال.
يستعرض مؤلف الكتاب في صفحاته أهم الانتقادات التي يوجهها للأستاذ، وأولها رفضه القاطع التطرق إلى أصوله الريفية أو التحدث عن أبيه تاجر الغلال، ولكن المؤلف لا ينكر أن هذا البعد يرجع إلى نزعة هيكل الأرستقراطية التي ورثها عن أمه التي كانت تنتمي لأسرة ميسورة الحال، وتربيتها له كانت تربية مميزة، وساهم أبوه في هذا التميز عندما كان يصمم له بنطلونا كل شهر ليكون أشيك طالب في مدرسته، هذه الرفاهية التي رافقت طفولته جعلته ينظر بإعجاب وتأثر بالطراز الإنجليزي الكلاسيكي الذي سيطر على طريقة حياته في منزله، فيكفي مثلا أن نعرف أنه - في شقته الأنيقة المطلة على النيل - يجلس في انتظار خادمه الذي يحضر له فنجان الشاي عند الخامسة، وفق التقليد البريطاني، ويحضر الخادم ببدلة رسمية كاملة تحتها قميص أبيض وحول عنقه كرافتة سوداء هذا المشهد لا يسوقه المؤلف عابراً، ولكنه يبرزه في الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان "العلاقة المبكرة بالإنجليز"، ليقدمه فيما يشبه التفصيلة الصغيرة، ولكن المتأمل لها سيجد أن هناك علاقة نفسية تربط هيكل بالإنجليز- على حد تعبيره في كتابه - وتجعله واقعا في غرامهم، لأنه عشق فتاة إنجليزية في شبابه، وتأثر بطريقتها في الحياة وبهره خادمها الذي كان يحضر الشاي في بيتها عند الخامسة.
يؤكد المؤلف في كتابه أيضاً، أنه ابتعد عن هذه القتاة الإنجليزية خوفا من أن تطاله الشبهات إبان فترة تم فيها استهداف السياسيين الذين ربطتهم علاقات صداقة بالإنجليز بالاغتيال، وقبل أن تستغرق في فصول الكتاب سيلفت نظرك غلاف الكتاب الذي رسمه الفنان المميز "كريم سيد"، والدال جدا على مضمونه، وسترتعد خوفا من عين الأستاذ الهادئة التي تشي بالتخطيط الدائم وهو يمسك في يده اليمنى سيجار "هافانا" الكوبي الفاخر، وفي اليسرى عصا الكاهن التي تعلوها شعلة النار.
مشوار "هيكل" الصحفي ليس - من وجهة نظر مؤلفه - سوى خطوات للوصول إلى القمة، وتوظيف موهبته للعنصر القوي في نهاية الصراع، فعلى الرغم من حبه للإنجليز وتقديم معلومات لهم إلا أن الكتاب لا ينكر أنه لم يكن يوما عميلا لهم أو خائناً لوطنه يتقاضى مبالغ مالية منهم، ولكنه كان مثل الفراشة التي تدرك جيدا ضرورة ألا تقترب من النار، ولكن أن تعرف كيف تحوم لجمع رحيق المعلومات، وهذا هو نهج "هيكل" الذي اتّبعه مع كل الأطراف التي اقترب منها بمن فيهم الإنجليز والسوفيتيون والأمريكيون والتيارات السياسية في مصر - المتناثرة بين جماعة الإخوان والوفديين والناصريين - يقترب من جميع الأطراف ويجمع المعلومات، وحين ينطق بها يسبقها بكلمة "أعتقد"، أو بكلمة "يقال"، وحين اقترب هيكل من الزعيم جمال عبد الناصر - وكان يخصه الزعيم بالانفرادات، ويغار باقي الصحفيين منه - يرد عليهم: "إنه الوحيد الذي يأتي لي بالمعلومات".
الكتاب فيه تحامل كبير على شخص الأستاذ، ومريدو "هيكل" وتلامذته سيكونون غاضبين لطريقة التناول التي ينظر له مؤلف الكتاب بها، خصوصاً وأنه رمز صحفي يحترمه أعداؤه قبل أصدقائه، وهو يتتبع مواقفه السياسية خاصة فيما يتعلق بكتابه "خريف الغضب"، الذي ألفه عن السادات ليقود هجوما حادا عليه.