لعل أحد علماء الاجتماع السياسي يبحث في سرّ غرام المصريين بثلاثية الشعارات، فآخر شعاراتنا التي نتذكرها في احتفالنا بذكرى 25 يناير الثالثة: "عيش.. حرية.. كرامة إنسانية"، سبقته سلسلة ممتدة من الشعارات التي ينسخ بعضها بعضاً، والتي تتغير بتغير المرحلة، منذ ثورة يوليو 52 مروراً بالمرحلة الاشتراكية ثم مرحلة السادات وما أعقبتها من مراحل، وتبدلت علينا لافتات التنظيم السياسي الحاكم بالتوازي، منذ هيئة التحرير فالاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي بمرحلتيه - قبل وبعد نكسة يونيو 67 - فالمنابر ثم الأحزاب الساداتية الكرتونية، وعلى قمتها الوريث الأكبر لتنظيمات الحزب الواحد، حزب مصر ثم الحزب الوطني، قبل أن تنفجر ماسورة الأحزاب حتى يكاد أن يصبح لكل عائلة حزب.
ولم يكن الأدب والفن بعيدين عن مزاج الثلاثية، فما زلنا نتذكر ثلاثية نجيب محفوظ: بين القصرين وقصر الشوق ثم السكرية، والتي كتبها بين عامي 1956 و1957، والتي توثق وترصد وتكشف تشابكات مرحلة بعينها ما بين قاهرة 1917 وقاهرة الخمسينيات، عبر تقلباتها الإجتماعية وتوازنات القوى فيها، وكانت مدخلاً لإعادة اكتشاف أدب نجيب محفوظ وتصدّره الأعمال النقدية ليصبح عميد الرواية العربية.
على أن شعارات المراحل المختلفة لم يكتب لها التحقق على أرض الواقع، رغم أنها كانت محل اهتمام الإعلام وكثير من الأعمال الفنية ما بين أغانٍ وأفلام ومسلسلات، ومن اللافت أن شعار يوليو في مرحلة الاتحاد القومي - رغم مرور نحو نصف القرن أو يزيد - ما زال يقدم حلولاً لأزمة الواقع المعاش، ويصلح لأن يكون عنواناً لبرنامج عمل لو قدمه مرشح للرئاسة لضمن التفافاً شعبياً يحمله إلى قصر الاتحادية.
كان الشعار: الاتحاد والنظام والعمل، وقد احتشدت به أفلام المرحلة، أفلام الأبيض والأسود، ولو حللنا مضمونه لاكتشفنا كنزاً تاريخياً يجيب على أسئلة اليوم عن كيفية الخروج من النفق الذي دخلناه بفعل أنظمة فاشية متعاقبة.
ولعلنا نلمس سعي التفكيك الذي يحاصرنا من قوى دولية بمساندة نظائرها الإقليمية، ممن تربطهم معها مصالح تضمن بقاء أنظمتها المفارقة للمعاصرة والمكبلة لشعوبها، إضافة إلى عدائها التقليدي لمصر، التي وإن مرضت فما زالت تسبقها حضارياً وإبداعياً وإمكانات بشرية، ولعل ما يجري بيننا من أعمال إرهابية - بفعل عملاء الداخل ممن يخايلهم الحلم الرجعي الأثير الذي رفضه الشعب المصري بعد سنة واحدة من حكمهم، والذي تجدد رفضه في احتفاء الشارع على امتداد خارطة الوطن بذكرى ثورته المجيدة الثالثة قبل يوم وبضع يوم - سعي التفكيك الضاري لا يئده إلا الاتحاد، والذي لا يتحقق إلا بتخلي النخب والأحزاب والمتنفذين عن أنانيتهم التي تشربوها من ثقافات غير مصرية شرقاً وغرباً، ولعلهم يقرؤون دروس اللحظة بعيون مفتوحة لحساب الوطن.
والتفكيك يؤسس له بالفوضى التي نرى طيفا منها في واقعنا، سواء في الشارع أو المنظومة الحكومية في تعاملاتها اليومية عبر شبكة المصالح الممتدة، والتي صار الفساد هو المدخل لقضاء حاجات المتعاملين معها، والتي صارت جداراً صلداً يكرّس لمزيد من الفوضى وتحدّي القوانين والنظم صعوداً وهبوطاً، وراح يشيع ثقافة الفوضى واللامبالاة مستخدما كل وسائل التأثير، حتى اخترق منظومات التعليم والفن والإبداع، ليجرف عقول أجيال المستقبل من خلال الفن الهابط من الأغنية إلى الفيلم إلى المسلسل.
وغير بعيد يقف التدين الفاسد ليجفف قيم الدين الداعية إلى العمل والإتقان ومكارم الأخلاق، التي من بينها الانضباط، وبين التدين الفاسد ومنظومة الفوضى علاقات تحتية تحركها عقول تفهم ما تسعى إليه، وهنا تبرز أهمية استعادة النظام المنضبط، نظام العمل، نظام التعليم، نظام القضاء، نظام العلاقات البينية المؤسس على قواعد واضحة صارمة ومطبقة، لا تحابي ولا تجامل ولا تنحاز إلى موازين القوى الفاسدة.
وبعد أن كنا مخزن العالم في الغذاء - كما تخبرنا الكتب المقدسة - استنكرنا أن يقال عنا إننا بلد زراعي فأهملنا الزراعة ولم نستطع ان نقتحم أسوار وأسرار الصناعة، وكابرنا حتى صرنا نتسول قوتنا، ومع الفوضى والتفكك صارت البطالة التي أنتجها تعليم فاسد هي همّنا أمس واليوم وربما غداً، وبلعنا الطعم الأمريكي وصرنا نستورد حتى الخيط والإبرة، ودمرنا صناعاتنا التقليدية وحاصرنا الحرف التي كانت تدعم اقتصادنا في القرية والحارة، وصارت الصين قبلتنا حتى مع رداءة ما يجلبه غالبية المستوردين.
وهل غير العمل المنضبط والمنظم والمبني على قواعد علمية، يمكن أن يكون مخرجاً من كارثة البطالة وذل المعونات وحمل القروض التي كادت أن تقصم ظهر اقتصادنا؟.
وبعد.. هل نجد من يعيد الحياة إلى شعار ثورة يوليو 52 ليبني عليه خطة ثورة 25 يناير، وهل يمكن أن نجد من يترجم شعار "الاتحاد والنظام والعمل" إلى برامج وخطط ورؤى يتحقق بها شعار "عيش حرية كرامة إنسانية"؟!.