الإثنين 18 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

نجيب أبو كيلة.. قصة جديدة بين العالم العربي وأمريكا اللاتينية

 نجيب أبو كيلة
نجيب أبو كيلة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يشكل الفوز الكبير للفلسطيني الأصل نجيب أبو كيلة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بالسلفادور قصة جديدة في ملحمة تاريخية وثقافية عابرة للأجيال ما بين العالم العربي وأمريكا اللاتينية.
ونجيب أبو كيلة الذي يبلغ من العمر 37 عاما ينتمي لعائلة فلسطينية منحدرة من مدينة بيت لحم في الضفة الغربية واستقرت قبل نحو قرن في هذا البلد الأمريكي اللاتيني الذي عانى في السنوات الأخيرة من عنف متصاعد لتنظيمات إجرامية أثارت حالة من الرعب والتشاؤم حيال المستقبل.
والسلفادور التي يتجاوز عدد سكانها السبعة ملايين نسمة هي اصغر دولة من حيث المساحة في منطقة أمريكا الوسطى لكنها الأعلى من حيث الكثافة السكانية ويحدها غربا المحيط الهاديء وجواتيمالا من الشمال وهندوراس من الشرق ولغتها الرسمية هي الأسبانية وتأثرت بشدة بالثقافة الأسبانية بحكم الوجود الاستعماري الاسباني لأكثر من قرنين في هذا البلد.
وفيما شغل أبو كيلة من قبل منصب رئيس بلدية العاصمة سان سلفادور التي تضم مسجدا يحمل اسم "دار إبراهيم" فقد خاض الانتخابات الرئاسية الأخيرة تحت راية "التحالف الكبير من اجل الوحدة" ليفوز على منافسيه كارلوس كاييخا، الذي ينتمي إلي اليمين، وهوجو مارتينيز الذي ينتمي لليسار.
وتعهد نجيب أبو كيلة قطان الذي سيكون سادس رئيس للسلفادور منذ انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت 12 عاما في هذا البلد عام 1992 بمحاربة الفساد وتعزيز الأمن وتشجيع الاستثمارات وتطوير التعليم فيما يكشف التاريخ السياسي المعاصر لهذا البلد عن حضور فلسطيني مميز يمتد للثقافة والاقتصاد.
ومن هنا لا يعد نجيب أبو كيلة أول رئيس للسلفادور ينحدر من اصل فلسطيني فقد سبقه أنطونيو سقا الذي ولد عام 1965وكان رئيسا للسلفادور بين عامي 2004 و2009 كما عرفت هذه الدولة أسماء من مشاهير الساسة ينحدرون من اصل فلسطيني مثل شفيق حنضل.
وعبر تاريخها تزهو السلفادور بكتاب ومبدعين في الأدب مثل فرانسيسكو جافيديا وسلفادور سالازار وكلوديا لارس والفريدو اسبينو وبيدرو ريفاس وخوسيه روبيرتو والشاعر روكي دالتون والرسام والكاتب ميجيل سيرنا والمخرج الراحل بالتسار بوليو.
وسواء في السلفادور أو غيرها، كثيرا ما يكون الأدب على وجه الخصوص والإبداع الثقافي على وجه العموم بمثابة البرق الكاشف والضوء الهادي للحقائق التي قد تكون مدهشة أحيانا أو مثيرة للفضول والتساؤلات في أحيان أخرى كما هو الحال عندما تمكن السياسي البرازيلي المنحدر من اصل لبناني ميشال تامر من للوصول لمنصب الرئاسة في البرازيل منذ نحو ثلاثة أعوام وهو ما يعكس مكانة مميزة لنخب منحدرة من أصول مشرقية عربية في دول أمريكا الجنوبية واللاتينية.
ولعل المكانة المميزة للنخب المشرقية الأصل وخاصة تلك المنحدرة من أصول فلسطينية ولبنانية وسورية في الحياة السياسية والاقتصادية بدول أمريكا الجنوبية واللاتينية تدفع أكثر في اتجاه إيجابي لتعزيز العلاقات العربية - الأمريكية الجنوبية واللاتينية.
والأدب الروائي يحوي في توليفة من الواقع والخيال صفحات تضيء خبايا الهجرة العربية لأمريكا الجنوبية واللاتينية وقصة الرئيس السلفادوري الجديد نجيب أبو كيلة تعد في احد معانيها صفحة جديدة في هذه الملحمة التاريخية والثقافية العابرة للأجيال وينبغي أن تحفز على مزيد من الإدراك لأهمية العلاقات العربية - الأمريكية اللاتينية والجنوبية والحرص على تنميتها وتعزيزها في شتى المجالات فيما يشكل المجال الثقافي ساحة هامة من ساحات التفاعل الرحب بين الجانبين.
وإذا كانت هذه الهجرة العربية لأمريكا الجنوبية واللاتينية والتي شملت أجداد نجيب أبو كيلة موضع دراسات في العلوم الاجتماعية والتاريخ والانثربولوجي فإنها كانت أيضا موضع اهتمام روائي وأدبي على وجه العموم، بل إنها تجلت في حضور شخصيات تحمل أسماء وملامح عربية في بعض أعمال الروائي الكولومبي الراحل والحاصل على جائزة نوبل في الآداب جابرييل جارثيا ماركيز وكذلك الروائي البرازيلي الراحل جورجي امادو.
ولئن أكدت دراسات في أدب أمريكا اللاتينية أن معظم مبدعي الواقعية السحرية في هذه المنطقة تأثروا بحكايات ألف ليلة وليلة فإن دراسات ثقافية منشورة عن روايات المهاجرين العرب في أمريكا اللاتينية أوضحت أن الحضور العربي في دول تلك المنطقة برز في أكثر من مظهر ووصل تأثير الثقافة العربية إلى أراض كثيرة هناك.
وتؤكد هذه الدراسات أهمية التأثير الثقافي للهجرة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى أمريكا اللاتينية حيث هاجر عدد كبير من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين إلى نصف الكرة الأمريكي وهي الهجرة التي بدأت بسبب الممارسات القمعية للحكم التركي في المشرق العربي.
والكاتب والباحث الشيلي سيرخيو ماثياس قدم دراسة هامة حول صورة المهاجرين العرب في السرد الأمريكي الجنوبي واللاتيني بينما يشير الباحث الكوبي ريجوبيرتو ارنانديث باريديس في دراسة ثقافية معمقة إلى إن هناك روائيين في أمريكا اللاتينية ينحدرون من أصلاب مهاجرين عرب مثل الكولومبي لويس فياض والشيلي والتر غريب.
والروائيون الذين انحدروا من أصول عربية تناولوا إبداعيا قصة التواجد العربي في أمريكا الجنوبية، كما فعل والتر غريب المنحدر من اصل فلسطيني في روايته "المسافر ذو البساط السحري" التي تأثرت بأجواء ألف ليلة وليلة وهي تحكي قصة "عزيز ماجدلاني" ذلك المهاجر الفلسطيني الى شيلي.
إنه مهاجر للأرض البعيدة فرارا من الهيمنة العثمانية وحتى لا يضطر للانخراط في سلك الجندية بالجيش التركي الغازي لبلده وكذلك ستجد شخصية "جميلة" المنحدرة بدورها من أصل فلسطيني والراغبة في العيش "بعيدا عن شبح الحرب والهيمنة التركية".
وفي هذه الرواية التي تبدو متأثرة برواية "مائة عام من العزلة" لجارثيا ماركيز يستشعر القاريء بوضوح مؤثرات الثقافة العربية وأساطير الشرق فيما يحكي الجد عزيز للأحفاد عن "البساط السحري" الذي اكتشفه بمحض الصدفة في ركن ببيته الحجري كما يحضر المطبخ العربي ومأكولات الشرق مثل "محشي الباذنجان والممبار" !.
وتستعيد رواية " المسافر ذو البساط السحري" حقيقة أن أغلب المهاجرين العرب لأمريكا اللاتينية بدأوا أنشطتهم هناك كباعة متجولين وخاضوا مغامرات تجارية حققت لبعضهم ثراء كبيرا فيما تنطوي الرواية على إشارات دالة بشأن قضايا الهوية والاندماج في الأرض الجديدة التي هاجر لها هؤلاء العرب.
ويتجلى الحرص في الحفاظ على الهوية والتمسك بالجذور العربية في الزواج وتراث المطبخ وأساليب الطهي وكلها سمات تتجلى أيضا في رواية "سقوط الجهات الأصلية" للويس فياض المنحدر من أصل لبناني فيما تلقي روايته بأضواء على جذور الوجود العربي في كولومبيا والموجات الأولى من المهاجرين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين لهذا البلد الأمريكي الجنوبي.
إنها رواية كتبها لويس فياض مدفوعا بقصة عائلته وحكايات المهاجرين الأوائل من اللبنانيين لكولومبيا في مطلع القرن العشرين و"الشفرة الثقافية" لهؤلاء القادمين من أرض عربية وحنينهم لجذورهم ومحاولات "إقصاء الأشواق" حتى يتسنى لهم بدء الحياة في الأرض الجديدة والتعايش ثم الاندماج مع سكانها.
وحتى في السرد المكسيكي ثمة إنتاج روائي هام لكتاب من أصول عربية مثل رواية "في الصيف والأرض" لكارلوس مارتينيث اسد حيث البحث عن الأصول من جانب حفيد مهاجر لبناني للمكسيك و"تلبية الحاجة لمعرفة الذات من خلال التعرف على الأصول وحياة الأجداد.
ولا يجوز في هذا السياق تناسي أن الثقافة الأسبانية الطاغية في السلفادور وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية قد تأثرت تاريخيا وبشدة بالثقافة العربية خاصة في الحقبة الأندلسية، كما أن هناك الكثير من المهاجرين العرب وخاصة السوريين واللبنانيين والفلسطينيين قد وصلوا بثقافتهم لتلك المنطقة وباتوا جزءا من ذاكرتها الثقافية.
وفي مصر والعالم العربي كان مثقف مصري كبير هو الراحل الدكتور الطاهر احمد مكي قد أوضح أن الكثير من الألفاظ العربية المتصلة بالحضارة والعلاقات الاجتماعية في سياقات متعددة دخلت اللغة الأسبانية التي يتحدث بها أغلب سكان أمريكا اللاتينية إلى جانب اللغة البرتغالية المتأثرة بدورها بالعربية.
والدكتور الطاهر أحمد مكي الأستاذ بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة والذي قضى في الخامس من ابريل عام 2017 عمل لعدة سنوات كأستاذ زائر بجامعة بوجوتا الكولومبية حيث بحر بعمق في ثنايا الأدب المكتوب بالأسبانية في أمريكا اللاتينية.
كما عبرت ظاهرة الحزن الشعبي العربي على رحيل الرئيس الفنزويلى هوجو تشافيز الذي قضى في الخامس من مارس عام 2013 - حتى تحدث البعض عن "تشافيز العربي"- عن مشتركات إنسانية وتفاعل وجداني رغم تنائي المسافات وكذلك تعامل بعض المثقفين العرب مع النوبلي جابرييل ماركيز الذي رحل في السابع عشر من أبريل عام 2014 وكأنه كاتب عربي!.
ووسط موجات الحزن الثقافي العربي لرحيل ماركيز توالت الكتابات والاعترافات في صحف ووسائل إعلام ومواقع للتواصل الاجتماعي من مثقفين ومبدعين مصريين وعرب مؤكدة على أن الكثير منهم كان يتعامل مع رواياته وكأنه "كاتب عربي" بقدر ما سعوا للتعلم من قدرته المدهشة على السرد واستلهام قوة خياله الموصول بارث "ألف ليلة وليلة" فضلا عن إقامة علاقات جديدة ومغايرة مع الواقع.
والظاهرة تبرر السؤال عن مدى التأثير والتأثر بين العرب وماركيز الذي تجاوزت مبيعات كتبه ال65 مليون نسخة..فماركيز الذي ولد عام 1927 ورحل عن عمر يناهز 87 عاما في منزله بالعاصمة المكسيكية "مكسيكو سيتي" ترك بصمة عميقة على مخيلة القاريء العربي كان بالمعنى المصري "رجل ابن نكتة" وصاحب حس فكاهي وتتغلغل الصحافة عميقا في روحه منذ أن عرف الطريق "لبلاط صاحبة الجلالة" في عام 1954 وعرف في عمله الصحفي أن الواقع قد يكون أغرب من الخيال كما تميز سواء كصحفي أو روائي بالقدرة الفائقة على ملاحظة التفاصيل.
و"ميرسيديس" زوجة ماركيز تنحدر من عائلة سكندرية ذات أصل مصري - لبناني هاجرت منذ زمن بعيد لكولومبيا فيما أحبها جابرييل وهي في ميعة الصبا وتزوجها عام 1958 لتنجب له رودريجو الذي أصبح سينمائيا في الولايات المتحدة وجونزالو وهو الآن مصمم جرافيك في المكسيك.
والأدب الأمريكي اللاتيني نابع في اغلبه من خيال مطلق السراح كما يتجلى في إبداعات الروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي قال إنه تعلم السحر الروائي من "ألف ليلة وليلة" والقاص المكسيكي خوان رولفو ناهيك عن صاحب نوبل الكولومبي جابرييل ماركيز الذي تعد أعماله من أكثر الروايات الأجنبية انتشارا في العالم العربي ويحلو للبعض وصفه "بسرفانتس القرن العشرين" نسبة لدون ميجيل دي سرفانتس صاحب رائعة "دون كيشوت".
وبفضل ماركيز يردد القاريء في مصر وغيرها في العالم العربي أسماء مناطق وأماكن وشخصيات أمريكية لاتينية وأضحت رواياته من المرجعيات الثقافية والقراءات المؤسسة لكل من يريد السباحة في عالم الإبداع الروائي بالعالم العربي من المحيط إلى الخليج وللحد الذي ذهب معه البعض للقول بأن جابرييل ماركيز هو أحد الآباء الثقافيين المؤسسين في عالم الرواية العربية المعاصرة !.
وماركيز صاحب "ذاكرة غانياتي الحزينات" كما تذوقه القاريء العربي مشبع بروح امريكا اللاتينية وجمالها وفتنتها وغرائبيتها الجذابة وتحفل ابداعاته بصور العلاقة الابداعية بين المكان والبشر والألوان وكان من اكثر الكتاب العالميين الذين تضامنوا مع الشعب الفلسطيني ودافعوا عن الحقوق المشروعة لهذا الشعب في اتساق نبيل مع ايمان لايتزعزع بقيمتي العدل والحرية بقدر مانجح في تحويل الرواية لإبداع ديمقراطي يحظى باهتمام شعبي يتجاوز النخب والحلقات الضيقة للمثقفين حتى وصفه الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس بأنه "الروائي الأكثر شعبية واعظم من كتب بالأسبانية بعد سيرفانتيس كاتب القرن السابع عشر".
ولم يبالغ الكاتب المصري العظيم الراحل الساخر محمود السعدني عندما ابدى ندمه يوما ما لأنه على تعدد رحلاته حول العالم لم يزر امريكا اللاتينية او "بلاد الرقص والموسيقى" فيما تكاد "خفة الظل الأمريكية اللاتينية تضارع خفة الظل والدم المصرية" وتتجلى في كتابات مشاهير الثقافة بهذه المنطقة من بينهم الراحل جابرييل ماركيز.
وفي شهر أغسطس الماضي افتتح ميدان يحمل اسم مصر في العاصمة الاكوادورية كيتو ليشكل فاتحة مأمولة لميادين جديدة في ثقافة المكان والرموز الحضارية المصرية في أمريكا اللاتينية بقدر ما يوميء لأهمية العلاقات العربية-الأمريكية اللاتينية وقصتها الحافلة بكثير من المؤثرات الثقافية.
وحضور مصر الساطع في مؤتمرات القمة العربية-الأمريكية اللاتينية يدفع في اتجاه التعاون البناء بين شعوب المنطقتين في مجالات متعددة من بينها الثقافة والاقتصاد والتعليم والعلوم والتكنولوجيا كما تعبر النظرة المصرية لهذا التعاون عن إدراك أصيل للجذور الثقافية والحضارية المشتركة بين شعوب هذه الدول الصديقة والحرص على تنمية العلاقات وتعزيزها في شتى المجالات..إنها تجليات لملحمة جمعت بين الثقافة العربية وثقافة أمريكا اللاتينية التي أضيفت لها صفحة جديدة بانتخاب الفلسطيني الأصل نجيب أبو كيلة رئيسا للسلفادور.