في كتابه "كراسة التحرير" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع، يتأمل الكاتب الروائي مكاوي سعيد تفاصيل ثورة 25 يناير وتداعياتها الكبرى في ميدان التحرير، وشوارع القاهرة الخديوية المحيطة بالميدان، وقد ساعدته إقامته في المنطقة على رؤية علاقة الأحداث والأشخاص بالأماكن والأشياء من زوايا خفية، ربما لم ينتبه إليها إلَّا نُدرة من المُغرمين بقاهرة المُعز وتاريخها، والمؤمنين بالقدرات الكامنة لهذا الشعب.
وكون الكاتب مكاوي سعيد من قاطني "وسط البلد"، يعرفها "شبرا شبرا" ومشى مسافاتها الممتدة "خُطوة خُطوة" آلاف المرات - وما يزال - فقد أَلِفَ عماراتها بزخارفها الجميلة، ومبانيها الجديدة القبيحة التي اقتحمت النقاء المعماري القديم، ومحلاتها ومكامنها، فتراكمت لديه بلا قصد صداقة مع كل شيء: الإنسان، والجماد، والأحداث، والحكايات، حتى عرف وجوه سكانها، وربما أسماءهم، فبات يفرز أهل المنطقة عن الغرباء، ويُفرِّق المؤقتين عن المقيمين، ويلتقط ملاعيب "الخِرَتِية" مع الأجانب بـ "طرف عينه".
وبنظرة عابرة يلتقط أي تغير طفيف طارئ حتى ولو كان على رواد المقاهي التي يرتادها، ويفكر في أسبابه وخفاياه، وإذا استشعر خطرا على مكان أو شخص كتب عنه، ويتناول الأماكن عادة كأن لها مشاعر كالبشر، ويعكس تألمها لما لحقها من إهمال ونسيان، ويحرص على تجسيد ما اختفى منها، ليشعر الناس بحجم الخسارة، وحين اندلعت الثورة أدرك قيمة ما يملكه، وقيمة اللحظة التي يعيشها، فالحلم الذي بدا بعيدا لعدة عقود نزل إلى الأرض أمام عينيه، وأحداثه تدور على مقربة منه، فتحولت جولته اليومية إلى جولات، والملاحظات التفقدية إلى مشاركة، وبات الميدان مقصدا أولياً وممرّاً حتمياً، وهو المنطلق إلى البيت والمقهى ومشاوير العمل لا العكس، ولأنه يعرف مدينته عن ظهر قلب، لم ير الثورة - على ضخامتها - حدثا سياسيا مُجردا، بل رأها حدثاً إنسانيا بالمعنى الأشمل للكلمة، تداخلت فيه أشياء كثيرة متفرقة ومختلفة، التقت كلها في يوم 25 يناير فصنعت عالمه الخاص الذي وضع بعضه في هذا الكتاب.
كان مشغولا من اللحظة الأولى بقدرة الشباب الجُدد على الفعل الثوري، ومهموما بانتصار الثورة، وحرص على مشاهدة كل الوقائع بعينيه، وتسجيلها بيده في أسطر قصيرة أولا بأول في "نوتة صغيرة" لا تفارق جيبه، فلم تَفُته نأمة من شرارة البداية إلى تنحّي مبارك يوم 11 فبراير 2011، من أول "شمّة غاز" إلى صيحات الفرح الهائلة لملايين المصريين بسقوط الطاغية.
رصد "مكاوي" تفاصيل الثورة الرائعة، من "صابرين" فتاة الشارع التي دخلت ميدان التحرير مصادفة في البداية، واندمجت مع بنات الثورة اللاتي أحببنها وأحبتهن، وتفانت في خدمتهن والإعجاب بشعاراتهن وترديدها معهن، إلى أن صرخن مع الميدان ومصر كلها فرحاً باندحار مبارك، وبعدها ابتلع الزحام "صابرين" ثانية، في دلالة رمزية واضحة على بقاء الشقاء كما هو بلا تغيير حتى الآن، وكتب عن "نمر الثورة"، المناضل "كمال خليل"، الذي أرهق نظام "حبيب العادلي" بشعاراته الثورية، وقيادته المتظاهرين في أنحاء مصر، وزادته الاعتقالات قوة وإصرارا على المواجهة إلى أن وقع الصدام الأكبر في التحرير، وانكسر الأمن واعتقل "حبيب العادلي" وانتهى هو وسيده إلى المعتقل، ومن نمر الثورة إلى "بيير السيوفي"، الثوري الحالم، صاحب أهم عمارة تُطل على ميدان التحرير، وكأنه امتلك "ناصية الثورة" ودفَّتها، فسمح لكاميرات الفضائيات بتصوير الأحداث كاملة ومجانا من شقته بموقعها البانورامي المذهل، ويعلق أول لافتة كبرى بمطالب الثورة بارتفاع عمارته، ويأوي الثوار في بيته باستضافة كاملة، ويجهز طعاما ومشروبات دافئة للآخرين في الميدان، ويعلن تحدِّيا واضحا لكل أجهزة النظام، ولم يكن ثمة يقين بعد بسقوط الطاغية، لكنه اختار الانحياز للشعب ببساطة مهما كانت العواقب، ومثله فعل "أحمد لطفي"، النبيل الذي فتح شقته أيضا للثوار في دور أرضي بإحدي عمارات الميدان، ورغم سنه ومتاعبه الصحية فضّل البقاء وسط الأعداد الكبيرة من ضيوفه ودخان الغاز، على الذهاب إلى ابنته في مكان بعيد، إلى أن وقع التنحي وشعر بالثورة تتحقق في شقته.
وفي المقابل، وقف بذكاء وخفة ظل أمام كل من خانوا الثورة من الانتهازيين، وممن يزعمون أنهم شعراء الثورة، وأنهم كانوا في الميدان من أول لحظة وهم لم يدخلوه، ومن عادوا الثورة من أول لحظة لصالح نظام مبارك، وحين تنحّى تنصلوا منه وادعوا الثورية المبدئية، وأعلنوا انحيازهم للشعب ولفقوا لأنفسهم تاريخا مزيفا، لكن مصيبتهم أن كل أكاذيبهم كانت "على الهواء مباشرة"، والشعب "مفنجل عيونه" في لحظة لا ينتج فيها الخداع إلّا الفضيحة لفاعله، ولم ينس "مكاوي" شيئا مما جرى في الميدان، من صمود الناس في مواجهة الجوع والبرد وظروف الإقامة القاسية في ميدان لا تتوفر فيه الخدمات الإنسانية، لكنه أصبح مجالا مفتوحا للتكافل الاجتماعي الهائل، وأقيمت فيه منظومة إعاشة عشوائية رائعة، فمنهم من أقام عيادات ميدانية لتطبيب الجرحى والمرضى، ومنهم من يحضر كميات كبيرة من الأطعمة والعصائر، وتشكلت تنظيمات دفاعية عن الميدان والثورة ضد النظام وبلطجيته، وحدثت أشهر الصدامات التي استقرت في الوعي العام باسم "موقعة الجمل" التي عجلت بنهاية النظام، وما حدث في "المتحف المصري" الذي يضم أهم آثار الدنيا.
ولم يغفل الكاتب الروائي "مكاوي سعيد" شيئا يستحق الذكر في الثورة، وخاصة الأبنية في الميدان وعلى رأسها مجمع التحرير ومسجد عمر مكرم والجامعة الأمريكية وغيرها، وعرض لتاريخ الشوارع المحيطة والمتصلة بالمكان، ولم يكن هذا كله بقصد التأريخ للثورة سياسيا، ولا بغرض تفقد العُمدة لأملاكه فقط، بل لحفظ وجدانيات الأمة في أجمل وأهم تجلياتها، وليهدهد الشعب المنهوب ويجعله يرى الروابط الخفية بين الأشياء، والتي ربما لا تبدو في الظاهر، لكنها تكون أدق في رصد ورؤية الحقائق بجلاء.
وكتب أيضا لطمأنة محبوبته، هذه البلاد التي أرهقها الظلم وأنهكها الفساد، وواتتها الفرصة لتتخلص مما يثقل كاهلها وتنال حريتها التي طال انتظارها، وإن عطَّلها أعداء الشعب إلى الآن، لكن الثورة ما زالت تتفاعل، وتداعياتها لن تتوقف في المدى المنظور، والثورات لا تكفّ يدها عادة إلا بتحقق كل مطالبها.
وشارك الفنان عمرو الكفراوى برسم غلاف الكتاب، كما رسم الشخصيات الداخلية، وقدم حكايات بالريشة موازية لحكايات الكتاب.