تتحرك بينهم، ترصد حركتهم الواهنة، تتعجب، تفكر كثيرا، لا تعرف كيف تنقلك خطوتك، لا حدس، لا شيء يمكنه أن يضعك في بؤرتهم، تكتفي بالصمت، مثلهم تماما.
ينقلك صمتهم إلى دوائر أعظم من اللامبالاة، تقترب من أن يصبح لا وجود لك على الإطلاق، ثم تبحث في وجوههم فتجد أنه من الصعب الاستمرار في اللامبالاة، إن شيئا ما في صمتهم وعزوفهم يدفعك للبحث، للمرور عليهم، لوخزهم حتى تستخرج كلمة، لكنهم واهنون .. صامتون؟!
ألا يكفي هذا الوهن لتكف عن تعذيبك لهم ونعتهم بما ليس فيهم؟ جزء من قديمهم لا يجعلك تصدق، أعرف ذلك، تصرخ وتقول إنهم في الأصل جبارين، قادرين...لا تحمل أحدا ظنونك.
لكن ألم تعرف أنَّ في بعض الصمت قوة، وأنك لا يجب أن تطمئن لهم كثيرا، إنها القوة التي تجعل عدوك يتمادى ظنا منه أنك ميت، أن لا وجود لك، الصمت الذي يجعله قلقا، لا ينام لا يعرف من أين ستأتيه الضربة، فيوجعك ويتألم هو. كيف تحكم هكذا دون أن تعرف أنَّ من تتكلم عنه يحترف القدرة على الصمت القاتل؟! قبل أكثر من مائتي سنة، جاء أحدهم حالما بالامتلاك، راغبا في استكمال امبراطوريته العظيمة، جاء حاملا عَلَم امبراطوريته، مطبعة، علماء، بجانب جيوشه، جاء مستعمرا يضع مبررات واهية لقدومه وقد أتى باغيا، غازيا.
في كتاب علماء بونابرت في مصر للكاتب المولع بمصر (روبير سوليه) يذكر أنه حين عرض علماء بونابرت تجاربهم الخارقة في حينها على المصريين، قابلوها بلامبالاة أغضبت المستعمر الفرنسي، واُتهم بسببها الشعب المصري بالجهل، بل إن عالم الجيولوجيا (دولوميو) وكان أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر قال : هذا الشعب لا يتسم بحب الاستطلاع أو الميل للمنافسة، فإن لامبالاته التامة أمام كل أمر غريب عن أحواله أو عقيدته أو أعرافه .. ربما كان أكثر ما أثار عجبي ودهشتي في أسلوب وجوده! .. فلا شيء يثير استغرابه .. لأنه لا يولي أي اهتمام لما لا يعرفه.
وعلى النقيض من ذلك رصدت جريدة أنباء مصر التي كانت تصدر في ذلك الحين ملحوظة لكبير الأطباء الفرنسيين (ديزجيت) أبدى فيها رأيه قائلا : إن مجرد الانتباه البسيط لكل ما يحيط بنا يوضح تماما أن المصريين يستفيدون من دروسنا، وإذا كنا قد لاحظنا أنهم متأخرون بحوالي عدة قرون .. فإن عقولهم المقلدة ومهارتهم قد جعلتهم يكسبون قرنا كاملا في مدة عام فقط!
لم يكن تجاهل المصريون لعلوم المستعمر غير أسلوب حماية لهويتهم، محاولة مقاومة لاستعمارهم، وقد استمر الشعب في لامبالاته تلك حتى فاجأ المستعمر بثورة القاهرة الأولى والتي كان سببها الرئيسي بعض التغييرات الاقتصادية المجحفة.
وفي سبيل السيطرة على مصر قام رجال المستعمر بمحاولات تشويه للشعب فقال واحد من فرسانه ويدعى (تيودور دي لاسكاريس) : أن مصر لم تنضج بعد، من أجل استيعاب مبادئ الجمهورية!
كل من له فكر استعماري ديكتاتوري يظن أننا شعبا غير مؤهل لشيء، لسنا مؤهلين للديمواقراطية أو لأي حياة كريمة!
الغريب أنه بعد الاحتلال الانجليزي والصراع الفرنسي الانجليزي للسيطرة على مصر كانت أغلب الصحف والمجلات الناطقة بالفرنسية الصادرة في مصر كانت تناضل من أجل إنهاء الاحتلال البريطاني لكنها لم تكن تؤيد الاستقلال، إذ يرى الفرنسيون أنه ليست لدى المصريون القدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم!
ورغم محاولات التعاطف مع المصريين ضد المحتل الإنجليزي كما ذكر روبير سوليه في كتابه مصر ولع فرنسي حيث كتب أن جريدة لو بوسفور قد نشرت أن المصريين (طيبون، عقلاء، متسامحون)، لكن هذا الاطراء لم يخف فكرتهم المترسخة تماما بأن المصري (رجل ضعيف الشخصية، سلبي يخضع بسهولة إلى جميع أنواع الهيمنة)، ووصلت بهم الصفاقة لوصف المصريين بأنهم (شعب طفل بصفة دائمة).
وقد قال (لوجيد جان) في دليله السياحي عام 1894 بأن (جوهر الطبع المصري هو الطيبة المتهاونة، والميل نحو قبول كل شيء بلا تذمر، الرضا بالأمر الواقع مهما كان).
بينما قال الكاتب الفرنسي (أوجين فرومانتان 1820 - 1867) عن المصريين (هذا الشعب وديع، مرح إلى أقصى حد بالرغم من بؤسه ومن خضوعه . إنه يضحك من كل شيء، ولا يفور غضبا. صوته مرتفع ويصرخ كما يكثر الإشارات والحركات مما يجعلنا نعتقد أنه غاضب، في حين أنهم يضحكون) .
هذا بالإضافة لنشرهم كتبا مليئة بالضلال ومشحونة بالشتائم تبعا لوصف ابن جلدتهم روبير سوليه.
لا أتعجبهم حقيقة ليس على المستعمر أن يبجل شعبا جاء له غاصبا، بل إني أتعجب من هم من أبناء هذا الشعب ولا يعرفونه، يقللون من حجمه ومن قيمته، يبذلون قصارى جهدهم ليهدمونه ويصدرون فكرة أنه لا يستحق شيئا من طيب العيش ومن كرامة الحياة، من قال إن الشعب غير جاهز للديمواقراطية كان مصريا! ومازال بعضهم يردد ذلك ويتعامل معنا على أننا غير ذي أهل، يتحدثون بخطاب أغلبه يتعامل معنا كأننا أطفال رغم أن أطفالنا يتخطون مستوى خطابهم بمراحل كبيرة إنهم أطفال القرن الحادي والعشرين لكنهم لا يعرفون للأسف!