الجميع لا يحبون تلك المدينة الصغيرة، يتنكرون أحيانا للنسب لها بينما يذكرون أسماء قراهم بفخر، العجوز قريبتي كانت تردد (كفاية إنها بلد ملهاش ولي)، حتى سمعت هذه الجملة لم أكن أفكر أبدا بمسألة الأولياء والأضرحة، كنت ألمح في كثير من القرى زوايا صغيرة أو مدفنا في أحد الأركان، وأعرف بعد ذلك أنه ضريح لواحد من الأولياء، في كل بقعة واحد منهم يتبرك الناس بوجوده، إلا في مدينتنا الصغيرة لا بَرَكة ولا ضريحا.
ولأنني ولدت ونشأت بها لم أنشغل بفكرة الضريح أو البحث عن البركة، زياراتي كانت للأضرحة الكبيرة للتمتع بالأثر ليس إلا، أقرأ الفاتحة لصاحب أو صاحبة المكان ثم أمرر عيني على تفاصيل المسجد، شكل العمارة والنقوش، أبحث عن الراحة، قد يتعجب البعض أنني لم أجد راحتي عند الحسين، ووجدتها في مسجد بلا أضرحة، دخلته أول مرة فوجدتني أسجد وبي رغبة قوية في الصلاة، أجدها في رحاب البدوي رغم أنني أدخل دون أن أمر على ضريحه، وعند أم هاشم السيدة زينب كان العجب كله، فهي إن أرادت دعت وإن لم تُرد صرفت!
قبل سنوات ثلاث كنت أبحث عن عنوان ما ودلني الأصدقاء عليه مسترشدين بأنه إلى جوار أبي السعود، لم أكن أعرف حينها من هو أبو السعود الذي بت كل يوم من بعدها أطلب من سائق الأتوبيس أن يتوقف عنده لأذهب لعملي.
ولم أفكر به وأنا أرى النسوة لديه كل ثلاثاء، يدخلن إليه أو يجلسن مجاورات للمسجد أو في الحديقة المجاورة هن وأطفالهن، مولده بلا ضجيج أو زحام يكاد يمر فلا تلحظه.
في الجزء الخامس من كتاب الدكتورة سعاد ماهر محمد "مساجد مصر وأولياؤها الصالحين" تحدثت عن مسجده، معنونة الفصل بمسجد العارف بالله أبو السعود الجارحي (أبو السعود له جاه ومنقبة من زار ساحته يبلغ به أمله) وهو شيخ المتصوفين في القرن العاشر، توفي في عام 931هــ، وتؤكد دكتورة سعاد أنه ليس هناك تحديدا أو ترجيحا لمولده.
وعلى الرغم مما ذكره النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة) بأن أبا السعود الجارحي قاهري والده من أعيان كوم الجارح تقول سعاد إنه غير معروفة نشأته وطفولته أو شبابه المبكر، وأنه لم يعرف إلا بعد اكتمال شخصيته وكثرت مكاشفاته، وأصبح له مريدون وله زاوية في كوم الجارحي.
ارتبطت شعبية أبو السعود الجارحي بأن النسوة الطالبات الإنجاب يلجأن إليه طمعا في بركته، وينسب إليه حكاية جعلته المقصد في ذلك الشأن إلا أنني أشك في صحتها ولم أجدها إلا في دراسة للباحث صالح سعد (وتقول الحكاية أن هناك عاقرا تحب زوجها ويحبها لكنها كانت تخشى زواجه من أخرى ليكون له ولد، لم تقتنع بطمأنة زوجها ووفائه لها فما كان من الرجل إلا أن أخصى نفسه، ولكن يشاء القدير أن يزول سبب عقم الزوجة وكاشفته برغبتها في الإنجاب! فذهب الزوج إلى أبي السعود الذي أخذه معه إلى سردابه فجلس معه ثلاثة أيام ويقال ثلاثة أسابيع، صنع من الطين الذي يصنع منه القلل عضوا تناسليا ومسح عليه فعادت للرجل رجولته!) وشاعت الحكاية وانتشرت.
ولقد اجتمع القول بأن لأبي السعود بركات عدة ويقول عبدالوهاب الشعراني في كتابه الطبقات الكبرى أن أبا السعود لم يكن صفي العامة فقط، وإنما أيضا الملوك والأمراء والوزراء حتى إنهم عملوا بأيديهم في بناء زاويته، ويذكر أن طومان باي لم يتول الحكم إلا بعد مشورته، وكانت له حظوة في أيام حكمه، فأخذ يعزل ويولي ويثيب ويعاقب، لم يذكر شيئا عن الرواية الخاصة بالزوج والزوجة رغم أنه ذكر أن أبا السعود كان يعتكف في سرداب تحت الأرض يدخله في أول ليالي رمضان ولا يخرج منه إلا بعد العيد بأيام ستة، بوضوء واحد بلا أكل ولا يشرب من الماء إلا قدر أوقية كل ليلة وهذا ما ينافي الطبيعة البشرية، ويجعلني أيضا أتشكك في هذه الرواية أيضا لكنها في كل الأحاديث تقريبا عن الشيخ الذي كان يردد أنه لم يبلغ مقام مريد، ولكن الله تعالى يستر من يشاء.
ولم يكن للشيخ خليفة، وكان يقول: ليس لي أصحاب ويقول أيضا: لا تجعل لك قط مريدا، ولا مؤلفا ولا زاوية وفِر من الناس فإن هذا زمان الفرار.
وسُمع أبو السعود الذي دفن في سرداب زاويته بكوم الجارح بالقرب من جامع عمرو يقول لفقيه من الجامع الأزهر: متى تصير هاء الفقيه راء.
وفي حديث له مع الشعراني قال: من حين عملت شيخا في مصر لي سبع وثلاثون سنة ما جاء لي أحد يطلب الطريق إلى الله، ولا يسأل عن حسرة، ولا عن فترة، ولا عن شيء يقربه إلى الله، وإنما يقول أستاذي ظلمني، وامرأتي تناكدني، جاريتي هربت، جاري يؤذيني، شريكي خانني، وكَلّت نفسي من ذلك، وحننت إلى الوحدة، وما كان لي خيرة إلا فيها فيا ليتني لم أعرف أحدا ولم يعرفني أحد!