لم أفهم يوما أعمال النساء، كنت أراهن يبذلن جهدا غريبا، ينفقن نور أعينهن بطريقة تدفعني للتساؤل عن جدوى أعمالهن – أشغال الإبرة خاصة – تلك الأعمال التي تبدو جميلة، تلقى استحسانا مني قبل الأخرين، ورغم استنكاري كنت أراقب عن كثب وكيف لا وزعيمتهن أمي، وأكثر ما كان يستلفت نظري من مشغولاتهن اليدوية أعمال الكانافاه واللاسيه، تلك التي تحتاج مجهودا ودقة في العمل وعينا ثاقبة، خيوط الكانافاه كانت تستخدم في حشو فراغات خيوط اللاسيه الحريرية بعد أن يتم تتثبيتها على الأوراق بخيط عادي ثم تُحشى الفراغات برقة ودقة شديدتين، الرسوم موجودة لكن شغلها وتحويلها لعمل يدوي ليس سهلا وليست كل النساء بارعات في صنع مفارش اللاسيه ولوحات الكانافاه.
سنوات طويلة قبل أن أعرف أن هذه الأعمال هي النساء، بعد إنتهاء العمل تلمع عيونهن، تزهو نفوسهن، كتلك اللحظة التي أعثر فيها على جملة مميزة، أو حين يمسك عامل باكورة إنتاجه، صنع يديه، يملأهن الفخر وهن لا يعرفن أنهن بارعات لأنهن يعشقن التفاصيل.
لن تروي يوما أمرا لامرأة إلا وقد اضطجعت وقالت لك : من البداية لو سمحت واحدة واحدة، لا تنسى شيئا.
كم مرة سمعت هذه الجملة من امرأة؟
المرأة تتصيد التفاصيل، المرأة تعرف مكمن الوجع ومكمنه دائما في التفاصيل، فما بالك لو كانت من تكتب الوجع امرأة، إنها تأخذك من يديك لمنطقة دموع بلا جهد كبير، تستخدم أصالتها في سرد الدقائق الصغيرة التي قد تمر على كثيرين دون أن يلقوا بالا بها، تدفعك بهوادة لتكون جزءا منها، فتتألم.
التاريخ موجود، صفحاته ملك للجميع لكن اعطه لامرأة تعشق التفاصيل، تعرف كيف تجمع الخيوط وتثبتها وتقوم بالحشو برقة ودقة وانظر ما سوف ترى.
فعلت بي ذلك كاميلا شمسي الكاتبة الباكستانية وأنا أقرأ تحفتها الظلال المحترقة التي دارت أحداثها على مدى نصف قرن منذ سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي وحتى مطلع الألفية الثالثة، وكيف جعلتني هذه الكاتبة أرى جمالا فيما لا جمال فيه، كيف استدرت دمعي وهي تروي تاريخا إنسانيا بحتا، موجعا بحق.
وفعلته البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في صلاة تشرنوبل وهي تغزل بدقة وتروي عما حدث عقب انفجار مفاعل تشرنوبل، سرد مليء بالتفاصيل، تلك التي تؤلم وتوخز الروح بحديث عن النباتات، عن الحيوانات، عن سلوك زوجة مع زوجها الذي تعرض للإشعاع، رد فعل طبيب، حركة جدة ارتبطت بالمكان ويجبرونها على الرحيل، حواديت نسجت بخيوط دقيقة حريرية ما إن تنتهي منها حتى تجد من بين دموعك جمالا لا يُضاهى.
وفعلته أيضا المصرية رضوى عاشور في رائعتيها ثلاثية غرناطة التي تناولت تاريخ انهيار الأندلس، دفعتني رضوى لمناطق إحساس حقيقية لم يفعلها كاتب كتب عن نفس الفترة، لم يكن امرأة تعرف الدقائق وتنسج الكانافاه، وفعلته أيضا في الطنطورية التي تناولت الشتات الفلسطيني.
وها هي تمارسه بحرفية شديدة وبدقيق دقيق التفاصيل الكاتبة النيجرية تشيماماندا نجوزي أديتشي، تناولت في تحفتها نصف شمس صفراء الحرب في نيجيريا وانفصال بيافرا ومواجهة الإيبو للهاوسا وللمجازر التي تعرضوا لها، كانت تشيما تنسج خيوطها بدقة رهيبة وبتفاصيل دقيقة كما لو أنها تعمل على فسيفساء، كل التفاصيل الطعام، الملابس، الشوارع، البيوت، الحركة، الأفكار، المواجهات، القنابل، المخابئ، ممارسة الحب، الفشل، الرحيل، كل شيء بينما تفاجئك وسط كل هذا بجملة ( العالم كان صامتا حينما كنا نموت) تسجل دقائق الأمور لتعلن أن هناك كانت حياة وكان أناس يدافعون عن وجودهم، فتشعر معها بأنك تعدو للمخبأ، تنتظر القنبلة، تبكي لمصرع طفل، لبتر قدم، لرؤية رأس تبقى من جسد فتاة تحمله أمها وقد اختلطت ضفائر ابنتها بالدم كل ذلك بينما كان العالم صامتا يتلقى الأخبار وينتظر الموت.
سنوات طويلة قبل أن أعرف أن هذه الأعمال هي النساء، بعد إنتهاء العمل تلمع عيونهن، تزهو نفوسهن، كتلك اللحظة التي أعثر فيها على جملة مميزة، أو حين يمسك عامل باكورة إنتاجه، صنع يديه، يملأهن الفخر وهن لا يعرفن أنهن بارعات لأنهن يعشقن التفاصيل.
لن تروي يوما أمرا لامرأة إلا وقد اضطجعت وقالت لك : من البداية لو سمحت واحدة واحدة، لا تنسى شيئا.
كم مرة سمعت هذه الجملة من امرأة؟
المرأة تتصيد التفاصيل، المرأة تعرف مكمن الوجع ومكمنه دائما في التفاصيل، فما بالك لو كانت من تكتب الوجع امرأة، إنها تأخذك من يديك لمنطقة دموع بلا جهد كبير، تستخدم أصالتها في سرد الدقائق الصغيرة التي قد تمر على كثيرين دون أن يلقوا بالا بها، تدفعك بهوادة لتكون جزءا منها، فتتألم.
التاريخ موجود، صفحاته ملك للجميع لكن اعطه لامرأة تعشق التفاصيل، تعرف كيف تجمع الخيوط وتثبتها وتقوم بالحشو برقة ودقة وانظر ما سوف ترى.
فعلت بي ذلك كاميلا شمسي الكاتبة الباكستانية وأنا أقرأ تحفتها الظلال المحترقة التي دارت أحداثها على مدى نصف قرن منذ سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي وحتى مطلع الألفية الثالثة، وكيف جعلتني هذه الكاتبة أرى جمالا فيما لا جمال فيه، كيف استدرت دمعي وهي تروي تاريخا إنسانيا بحتا، موجعا بحق.
وفعلته البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في صلاة تشرنوبل وهي تغزل بدقة وتروي عما حدث عقب انفجار مفاعل تشرنوبل، سرد مليء بالتفاصيل، تلك التي تؤلم وتوخز الروح بحديث عن النباتات، عن الحيوانات، عن سلوك زوجة مع زوجها الذي تعرض للإشعاع، رد فعل طبيب، حركة جدة ارتبطت بالمكان ويجبرونها على الرحيل، حواديت نسجت بخيوط دقيقة حريرية ما إن تنتهي منها حتى تجد من بين دموعك جمالا لا يُضاهى.
وفعلته أيضا المصرية رضوى عاشور في رائعتيها ثلاثية غرناطة التي تناولت تاريخ انهيار الأندلس، دفعتني رضوى لمناطق إحساس حقيقية لم يفعلها كاتب كتب عن نفس الفترة، لم يكن امرأة تعرف الدقائق وتنسج الكانافاه، وفعلته أيضا في الطنطورية التي تناولت الشتات الفلسطيني.
وها هي تمارسه بحرفية شديدة وبدقيق دقيق التفاصيل الكاتبة النيجرية تشيماماندا نجوزي أديتشي، تناولت في تحفتها نصف شمس صفراء الحرب في نيجيريا وانفصال بيافرا ومواجهة الإيبو للهاوسا وللمجازر التي تعرضوا لها، كانت تشيما تنسج خيوطها بدقة رهيبة وبتفاصيل دقيقة كما لو أنها تعمل على فسيفساء، كل التفاصيل الطعام، الملابس، الشوارع، البيوت، الحركة، الأفكار، المواجهات، القنابل، المخابئ، ممارسة الحب، الفشل، الرحيل، كل شيء بينما تفاجئك وسط كل هذا بجملة ( العالم كان صامتا حينما كنا نموت) تسجل دقائق الأمور لتعلن أن هناك كانت حياة وكان أناس يدافعون عن وجودهم، فتشعر معها بأنك تعدو للمخبأ، تنتظر القنبلة، تبكي لمصرع طفل، لبتر قدم، لرؤية رأس تبقى من جسد فتاة تحمله أمها وقد اختلطت ضفائر ابنتها بالدم كل ذلك بينما كان العالم صامتا يتلقى الأخبار وينتظر الموت.