جاءت النتائج المتقاربة الى حد بعيد للاستفتاء الذى أجرى بالأمس فى تركيا لنقل البلاد من النظام البرلمانى إلى النظام الرئاسي لتفتح الباب نحو سجال واسع النطاق على الساحة السياسية ولتكون بمثابة خيرإنعكاس للانقسام الحاد في الشارع التركي بين من يؤيدون هذه التعديلات باعتبارها تنهي أزمة نظام سياسي يحمل عناصر عدم الاستقرار بحسب رأيهم، وبين معارضين لها باعتبارها تسير بالبلاد نحو المزيد من الاستبداد والديكتاتورية التي رسخها حزب العدالة والتنمية كما يقولون.
ويتفق المراقبون على أنه وإن كانت هذه النسبة البسيطة التى تم بها تمرير هذه التعديلات الدستورية المثيرة للجدل 3ر51% مقابل 7ر48% تعد كافية لتمرير التعديلات (الحصول على النصف زائد واحد أمر كاف لتمرير التعديلات الدستورية)، إلا أنها تعد "انتصارا بطعم الهزيمة" فقد كانت لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم الذى تبنى هذه التعديلات آمالا بحدوث مفاجآت تسهم في رفع النسبة، لكنها لم تحصل، الأمر الذي سيدفع تركيا للدخول في مفترق طرق نتيجة تقارب نسبة المشاركين في الاستفتاء.
وبالرغم من أن مصطفى كمال أتاتورك كان قد أسس تركيا في عام 1923باعتبارها جمهورية برلمانية ديمقراطية إجتماعية علمانية، فإنها ظلت عمليا تحكم من جانب حزب واحد لعدة سنوات الى أنه تم السماح بنظام الأحزاب اعتبارا من عام 1947 وإن ظل الجيش بمثابة الحارس لهذه الجمهورية العلمانية.
ولم يفقد حزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك، احتكاره للسلطة حتى عام 1950، عندما وصل" الحزب الديمقراطي "إلى السلطة في أولى محاولات السياسة متعددة الأحزاب. ومثل ذلك فجر عصر جديد في السياسة التركية والتي سوف تشهد انتشار الأحزاب السياسية والانتخابات المفتوحة، ومع ذلك فإن التحول من حكم الفرد إلى الدولة متعددة الأحزاب لم يكن سهلا، وفي الفترة بين 1950 و1980 أدى الجمود السياسي إلى ثلاثة انقلابات عسكرية ولكن سرعان ما تم إعادة الحكومة المدنية ربما للحفاظ على أفكار كمال أتاتورك التي كانت تؤكد على فصل الجيش عن السياسة للحفاظ على مهنيته ووضعه كحارس أوحد للجمهورية.
وبنظرة إلى الوراء قليلا، يبدو أن رجب طيب إردوغان لم يلزم نفسه بشكل ديمقراطي من الحكم، فالإصلاحات التي أجراها خلال التسعة أعوام الأولى من فترة حكمه كان سببها إلى حد كبير متطلبات الإتحاد الأوروبي من أية دولة تسعى إلى عضوية الإتحاد والتي استغلها كوسيلة لدفع نفسه نحو هدفه النهائي.
ويرى بعض الخبراء أن أردوغان ومن خلال هذه التعديلات الجديدة على الدستور سيحصل على سلطات وصلاحيات أكبر حتى من تلك التي كانت في يد أتاتورك..وقد أعطته الفترة ما بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف يوليو 2016، ما اعتبره الذخيرة المطلوبة للقيام بمطاردة من بات يعتبرهم خصومه وفى مقد متهم الداعية فتح الله جولن رغم تحالفه معه لفترة طويلة قبل ذلك.
واتخذ أردوغان من هذه المحاولة الفاشلة ذريعة للتخلص من عشرات الآلاف من الأشخاص الأكاديميين ورموز المجتمع المدني والقضاء والجيش والأمن الداخلي والصحافة والاعلام، الأمر الذي سمح له ببسط سيطرته الكاملة على جميع الدوائر في الحكومة وفي القطاع الخاص.
وقد ضمن بفعله هذا بأن يدور النظام السياسي حول الرئاسة تاركة إياه بدون منازع تماما لمتابعة حلمه الإمبراطوري لإعادة إحياء مكانة الإمبراطورية العثمانية، ضاربا عرض الحائط بكل قيم الديمقراطية والعدالة التي طالما تغنى بها، وكال الاتهامات لكل من يراهم أعداء في المنطقة، مؤسسا لنهج جديد من التسلط، ربما يفتح ابوابا من الصراع الداخلي، وابوابا أخرى من العداء مع أوروبا، التي اغلق أبواب الحوار معها.
وفي كل الاحوال فإن هذا الاستفتاء الذي يعد بدون شك نقطة تحول مفصلية فى تاريخ الحياة السياسية فى تركيا..كما أن هذه النتيجة المتقاربة للغاية إنما تمهد المسرح لمرحلة إستقطاب أكثر حدة على الساحة السياسة فى تركيا تظل تداعياتها مفتوحة على كل الاحتمالات.