تراتيل وصلوات.. دموع تقطع أدعية السماء، وشارات سوداء اكتست بها جدران الكنائس.
ففى الوقت الذى بدأ فيه أسبوع الآلام ليذكر ملايين الأقباط فيه عذاب المسيح بعد القبض عليه لأجل دعوته، عادت هذه الذكرى تلك المرة ولكن أكثر واقعية ليتجدد معها الألم مجددًا، ويتحول من الرمزية إلى الواقعية بعد حادث انفجار كنيسة مارجرجس بطنطا وكنيسة مارمرقس بالإسكندرية.
حالة من الحزن والألم سيطرت على كنائس مصر جميعًا وعلى منطقة مجمع الأديان بمنطقة مصر القديمة خاصة باعتبارها إحدى المناطق الدينية الأكثر روحانية بما تضمه من آثار دينية إسلامية ومسيحية معًا، خاصة دير «مارجرجس» الذى يمثل أكثر من ثلثى منطقة مجمع الأديان ويدخل ضمنها كنائس عديدة مثل كنيسة «أبى السرجة» وكنيسة «العذراء» و«دير البنات والراهبات»، وكذلك وأنت تسير بين جنباته تجد تقسيمات شوارع «مارجرجس» التى تشبه إلى حد كبير شوارع بيت لحم والقدس، فالحوائط الحجرية يكسوها صور القساوسة وتراتيل الصلوات تكاد تسمعها وأنت تمر من شارع إلى آخر، وقد اشتهر القديس «مارجرجس» بالكثير من المعجزات وأهمها أن تكتب ما تتمنى وما تريده عند أيقونته، وسوف تتحقق أحلامك بعدها، لذلك كان ملجأ لكثيرين ممن ضاقت بهم الظروف وتعثرت بهم الخطى، وفى حجرة النذور يمكنك أن تقرأ بالفعل على لوحة حجرية أسماء من عالجهم ببركاته ومنهم مسلمون ومسيحيون جميعهم شملتهم البركة كما جاء على لسانهم.
رحلتى إلى مارجرجس
وكنت قد توجهت صباحًا إلى هناك فى قرار لم ألحظ غرابته إلا عندما وصلت على باب الكنيسة «كنيسة مارجرجس».
نظرات من الشك والريبة صوبت نحوى وأنا أضع حقيبتى على المنضدة ليتم تفتيشها بعناية وتركيز، بينما أنا مستسلمة فى هدوء للسيدة التى كانت تتفحص الحقيبة بدقة وبعض الغضب ولا أبدى أى دهشة، قبل أن تسمح لى بالدخول وتقول «نورتينا».
توجهت نحو الداخل مع مريدى مار جرجس من طالبى السند والمدد والذين كانوا فى كل درجة سلم يدعون ويبكون طالبين العون، فمار جرجس قديسهم وشهيدهم، البطل المُدافع عن الحق، الثائر فى وجه السُلطة، «أبوحربة» ليقتل بها الوحوش، «سريع الندهة» فى إغاثة المحتاجين.
غرفة التعذيب
فى مبنى الكنيسة غرفة لها باب خارجى، هذه الغرفة تسمى غرفة التعذيب، فهى مليئة بصور وآلات تعذيب السيد المسيح والقديس مارجرجس، والتى تكاد معها تصرخ بالألم بمجرد أن ترى تلك الأدوات.
والتى من بينها ما يشبه عجلة دائرية يبرز من جميع أنحائها مسامير مسننة يظهر فى الصورة أعلاها رجل يدفعها بدم بارد على جسد الشهيد مار جرجس فى صورة تقشعر لها الأبدان، بالإضافة إلى الصليب والمسامير الثلاثة التى دق بها المسيح فى الصليب، وإكليل الشوك كذلك حذاء خشبى وضعت به مسامير مثبتة بنعله والذى كان من إحدى أدوات التعذيب.
رسائل الشكر
كما يمكنك أن ترى الكثير من رسائل الشكر لمار جرجس لنجاح أصحابهم وغيرها من عبارات الشكر على الزواج والخطوبة والعمل والرزق وبعضها لم يذكر سبب الشكر، وإنما اكتفى بعبارات الثناء وكلمات الاستحسان.
داخل غرفة التعذيب غرفة أخرى صغيرة تشبه الكهف تنزل إليها ببضع درجات تحت الأرض، وهى مليئة بألواح مكتوب عليها كلام باللغة اليونانية وبين اثنين منهما ترى ثقوبًا كثيرة فى الحائط وضعت بها ورق أمنيات صغيرة، لذلك أدركت سبب تجمع كثيرين تاركين أمنياتهم فى وريقات صغيرة بين أحجار كنيسته الشهيرة، كما يوجد ما يشبه الحفرة، والتى يلقى بها قصاصات من الورق مغلقة على أمنيات ورسائل إلى الشهيد مارجرجس.
إحدى السيدات كانت تبدو فى الستين من عمرها نظرت لى للحظات نظرة حائرة، وكأنها تريد أن تسألنى لماذا أنت هنا؟.. تركتنى وتقدمت نحو الداخل لتضع بقصاصة ورق داخل أحد الثقوب التى امتلأ بها الجدار وهى تقول «جئناك لتسندنا وتقوينا».
نظرت نحوى وفى عينيها بعض الاتهام، فربما كان الحجاب الذى على رأسى يمثل لها العديد من علامات الاستفهام خاصة فى هذا التوقيت الذى أتواجد به داخل الكنيسة، ولكننى وجدت نفسى أقدم لها كلمات التعازى فنظرت لى قائلة «هنا فى هذا الكهف الصغير والمظلم تدخلى لتجدى مكانًا لتحقيق الأمنيات بالدعاء للشهيد مارجرجس»، ولما وجدت منى إنصاتًا استكملت حديثها قائلة «هذا هو سجن مارجرجس الذى عذب فيه كثيرًا وجلس فيه، وبه مكان صغير توضع فيها الأمنيات مكتوبة بالاسم والتاريخ وما على مارجرجس إلا أن يدعو الرب باسمك لتحقيق أمنيتك، والتى ستتم بكل تأكيد، وتركتنى وهى تبكى وتتقدم نحو ما يشبه الهيكل الذى حمل أيقونات وصورًا للسيد المسيح، وهى تشكو كغيرها ممن امتلأت بهم قاعة الدير».