كانت الحكومة تجتهد في الانتهاء من قانون
المالك والمستأجر، في منتصف تسعينيات القرن الماضى، في ظل موجة من الاعتراضات لتوجّه
الحكومة، وحالة من الغضب التي فارقت الصدور لتستقر على صفحات الصحف وفى الشوارع، وفجأة
يخرج الدكتور محمد سيد طنطاوى، الذي كان وقتها مفتيًا للديار المصرية، بفتوى تنحاز
إلى وجهة نظر الحكومة. لم يطلب أحد من رجال النظام الفتوى، ولم يسع إليها، اتصل الوزير
كمال الشاذلى، أحد أركان نظام مبارك بالدكتور طنطاوى، وسأله مباشرة: لماذا أصدرت هذه
الفتوى؟ فقال له نصًا، كما روى الشاذلى بعد ذلك: رأيت أن النظام ينحاز إلى إقرار القانون
فأصدرت الفتوى لدعمه، وهى فتوى على أية حال لا تخالف الشرع. ما لم يقله كمال الشاذلى
لسيد طنطاوى، أن النظام لم يكن في حاجة إلى فتواه، بل كان في أمس الحاجة لصمته، فقد
كان النظام يخشى أن يقال عنه إنه يستخدم الدين ورجاله في إقناع الناس بما يريد، لكن
رجال الدين كانوا يجتهدون من أجل لفت الانتباه لهم، وإرسال رسالة واضحة بأنهم موجودون،
وفى الخدمة.
شىء من هذا لم يفعله الدكتور أحمد الطيب
عندما دخل دار الإفتاء خلفًا للدكتور طنطاوى، لم يكن الرجل وجهًا معروفًا في الأوساط
العامة، يعرفه فقط رجال الأزهر والمهتمون بمتابعة أخبار المؤسسة العريقة، اختياره نفسه
كان غريبا، وأداؤه كان أغرب، فقد استطاع في أيام قليلة أن ينزع فتيل التوتر الذي كان
طنطاوى قد زرعه في الدار بفتاواه ومواقفه السياسية وتدخله أحيانا فيما لا يعنيه.
عندما تبحث في الفترة التي عمل فيها الدكتور
الطيب مفتيا- من مارس ٢٠٠٢ إلى في سبتمبر ٢٠٠٣- لن تجد شيئا مميزا، اللهم إلا خروجه
من المنصب الكبير، قيل وقتها إنه لم يتحمل ضغوط العمل في المؤسسة، وهو عمل لا يتناسب
مع شخصيته الهادئة، لكن السبب الحقيقى لخروج الطيب من دار الإفتاء لا يزال لغزا حتى
الآن، وقد خرج من دار الإفتاء سالما تماما، لأنه لم يتورط في فتاوى أثارت ضجة.
كان فقط لديه رؤية محددة في مسألة الإفتاء،
صاغها في وجهة نظر احتفظتُ بها، فهو كان ولا يزال يرى أن المسلمين يعيشون حالة من فوضى
الفتاوى، يقول نصا: "ما يحدث في عالم الفتوى فوضى في المعلومات والإجابات، لكن لماذا
نشأت مثل هذه الفوضي؟ من وجهة نظري هناك عدة أسباب يأتي في مقدمتها ما يحدث على الساحة
الإسلامية نفسها، التي دخلت في صراعات شديدة، ورغم أنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة..
لكن هناك أيادى خفية حقيقية متفوقة في الترتيب والتنظيم والسرعة، والمشكلة أن العالم
الإسلامي يرتبط بالتوجهات السياسية، وبذلك يدخل الدين في أمور يأبي الدين نفسه الدخول
فيها، وإذا نظرنا حولنا سنجد أكثر من فقه ينتمي إلى أكثر من توجه سياسي.. فلدينا توجه
شيعي وتركي وخليلي.. وكل توجه من هذه التوجهات يتطلع إلى استقطاب مسلمين جدد إلى ساحته.
لا يكتفى الدكتور الطيب بالإفصاح عن وجهة نظره، بل يعود قليلا إلى تاريخه في مؤسسة الأزهر، ليبحث عن أصل المشكلة، يقول: "عندما دخلت الأزهر في عام ١٩٥٦ اخترت في استمارة التقديم المذهب المناسب لي وبجواري اختار شخص آخر مذهبًا آخر.. فتعدد المذاهب منذ كنت طفلًا صغيرًا قتل عندي حساسيتي من صاحب المذهب الآخر، فأنا عندما كنت أعود إلى منزلي كنت أصطحب معي زميلي الذي يدرس مذهبًا آخر ويمكن أن يصلي بي الحنفى أو المالكي أو الشافعي، شيء من هذا لا يوجد في دولة أخرى غير مصر"
دون عناء يدافع الدكتور الطيب عن الأزهر،
ينفى عنه تماما تهمة أن يكون التمذهب داخله سبب الفوضى التي نعيشها، يضعها في سياقها،
ولذلك فهو طول الوقت يحمّل جهات أخرى مسئولية حالة الفوضى التي يعيشها المسلمون بسبب
الفوضى.
اسمعه وهو يقول: "القنوات الفضائية التي ظهرت فجأة.. والتي لا يعرف القائمون عليها ماذا يقول الإسلام، تعمل فرقعات على حساب الإسلام وتستضيف أنصاف العلماء وتعرض عليهم القضايا المعلقة، وتثير بذلك البلبلة والخلاف، وأنا أيضًا ألوم مؤسستي وألوم زملائي لأنهم رضوا أن ينزلوا إلى هذا، وهم من المفترض علماء وفهموا أن هذه البرامج ليس لها هدف سوي بلبلة الناس، وكثير منا شارك في هذا دون أن أدري لماذا تم ذلك، نحن نري الآن مآسي في برامج السحر والأحلام.. فهل نحن في هذه المرحلة نحتاج إلى إغراق الناس في الأحلام، فواقعنا مرير ومقلق ويتطلب يقظة مضاعفة" .
يحمّل الدكتور الطيب الرجال مسئولية ما
يجرى، لكنه يبتعد كل البعد باتهاماته عن الفكر الذي يتبناه الأزهر، وهو أمر طبيعى جدًا
منه، وبدلا من أن يثرثر كثيرًا، يضع مجموعة من المعايير، نستطيع أن نرصدها من خلالها
كلامه.
أولا: يرى الطيب
أن المفتى لابد أن يدرس ويجتهد، ويعمل بالبحث على أي مسألة سيتعرض لها، تذكرون الضجة
التي تسبب فيها الدكتور محمد سيد طنطاوى، عندما أحل فوائد البنوك على إطلاقها، وخرج
كثيرون يحتجون عليه، يقول الدكتور الطيب عن هذه المسألة: "مسألة مثل فوائد البنوك أمضيت
عامًا ونصف العام أواجه هذا السؤال يوميًا حتى ضقت ذرعًا به، فهل استطاع علماء المسلمين
أن يجتمعوا ويضعوا إجابة لهذا السؤال، وأنا من قرية وأشاهد حجم المشكلة، يسأل الفلاح
البسيط عن حكم الاقتراض، يقولون له: حرام.. ويحدث أن يزداد المسلم الحقيقي فقرًا وحيرة،
والسبب أنه لا يوجد اتفاق.. لكن يوجد فقط اضطراب في الساحة الإسلامية، وهناك جهات تروج
لهذا الاضطراب، ولا تستطيع أن تقف الجهات المعتدلة في وجهها لأنها لا تملك أي إمكانات".
ثانيا: لابد
أن يدرك المفتى الواقع الذي يعيش فيه، وأن يضبط فتاواه على احتياجات الناس وما يستجد
في حياتهم من مستجدات عصرية، قد لا يكون لها أي أصل أو أثر في كتب التراث، استمع له
وهو يقول: "في مسألة الحضارة القديمة ما زلت كلما أنظر إلى المعابد التي تربيت فيها
أشعر بجلال القدم وهيبته، ومن الحقيقة الواحدة المستمرة عبر الزمان، الإسلام دخل مصر
من ١٤٠٠ سنة، لم يتم تحطيم التماثيل، الرومان دمروها والمسلمون حافظوا عليها، نحن درسنا
في الأديان المقارنة نظرتين: هل الدين بدأ وحدانية ثم انحدر وثنية.. الكون بدأ بالإيمان
بالله منذ آدم وحواء ثم حدث نكوص وتراجع، والحضارة المصرية أثر مما كان موجودًا قبلها،
فالدين والإيمان بالله والبعث حقائق موجودة قبل القدماء المصريين، وهم في ذلك شأنهم
شأن أي أمة جاءت بعدهم أو قبلهم".
ثالثا: لابد
أن يدرك المفتى أن الأديان لم تأت لشقاء البشرية، وأن المحرمات لم توضع من أجل إرهاق
الناس، ثم إن القاعدة لا يجب أن تكون هي الحرام أولا. استمع له مرة أخرى وهو يقول:
"إذا لم يكن لديّ نص تحريم فإن هذا الأمر مباح ولا أحتاج فيه إلى دليل، بل إن الذي
يحتاج إلى دليل هو الشيء المحرم، ومن يحرم هو الله سبحانه وتعالي، ولا يجوز أن يحرم
شيخ الإسلام ولا الأنبياء، فكل شيء مباح إلا ما ثبت بدليل قطعي، والحرام في الإسلام
لا يتجاوز نصف الصفحة، الكبائر معروفة، ومنها إيذاء الآخرين، فإتيان العبادات بمعزل
عن السلوك لا يجب، فإذا صليت وتؤذي الآخرين فصلاتك "زيرو"، والرسول سئل عن امرأة كانت
تقوم ليلها وتصوم نهارها وتؤذي جيرانها فقال: لأخير فيها هي من أهل النار".
رابعا: يدرك
الدكتور أحمد الطيب أن المفتى لابد أن يكون مجتهدا، لا يجب أن يستسلم لحالة الجمود
والتقليد، لابد أن يكون مبدعا وخلاقا وقادرا على إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل العصرية،
وهنا تجده يقول بلا مواربة: "نحن مأمورون بمداومة الاجتهاد ولا نجمل وجهه حينما نقول
ذلك، فالاجتهاد أمر صحي، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة
على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها"، و"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم"، والفلاسفة المسلمون أول من قالوا: إن الكون كله متحرك بمادته وجوهره، عكس
كلام أرسطو بسكون الكون، وأول من قال بالديمومة والصيرورة كان مسلمًا.
خامسا: يضع الطيب
قاعدة مهمة جدا وهى أن يقدم المفتى بدائل للمشاكل المعاصرة، فليس معقولا أن يصدر القاعدة
الفقهية، أو الرأى الشرعى في وجه الناس، ثم يتركهم وشأنهم بعد ذلك، بل لابد أن يضع
في اعتباره أن الناس يبحثون عن حلول عندما يسألون المفتى، إنهم لا يريدون أن يسمعوا
منه الرأى الشرعى، بقدر ما يريدون حلا، فمن بين ما يقوله أنه لا يجب أن يستغرق المفتى
في الحديث عن زى المرأة، وحجية الحجاب في الإسلام، دون أن ينتبه إلى أن هناك مشكلة
ضخمة اسمها العنوسة، وهى مشكلة تقتضى أن يكون لها حل جذرى.
سادسا: يرى الطيب
أن الفتوى متحركة، ما يناسب غيرنا قد لا يناسب آخرين، وهو ما يجب أن يضعه المفتى في
حساباته جيدا، يقول هو عن ذلك بشكل واضح لا لبس فيه: "الكثير من الفتاوي التي تقال
في العالم العربي والمجتمعات الإسلامية لا تصلح للمجتمعات الأخري، والإمام الشافعي
غير فقهه من الألف إلى الياء عندما قدم من العراق إلى مصر، ومن آداب الفتوي التيسير،
أي أن المفتي يجب أن يختار ما ييسر على المجتمع.. والإسلام الوسطي هو الإسلام المأخوذ
من القرآن والسنة ومن أفعال الرسول مع أسرته وواقعه".
لدى الرجل فلسفة واضحة جدا إذن فيما يتعلق
بالفتوى، وفيمن يقوم بها، وهى بالمناسبة ليست فتوى نظرية، إنه يفتى من أجل المجتمع،
لا يفتى من أجل الحاكم، ولا يفتى أيضا من أجل رضا الناس عنه، أو نفاقا للرأى العام،
الذي يريد في بعض الأحيان فتاوى بعينها دون أن يكون لديه وعى.
لقد تابعت عن قرب محاولة التحرش بشيخ الأزهر
الدكتور أحمد الطيب، بسبب موقف الأزهر من داعش وما تفعله، وسيطرت علىّ الدهشة من رغبة
كثير من الليبراليين الذي يصدرون أنفسهم على أنهم ضد التكفير، عندما طالبوا شيخ الأزهر
بإصدار فتوى تكفر داعش، وتخرجهم من ملة الإسلام، وكأن التكفير عندهم نسبى، يرفضونه
عندما يريدون، ويطالبون به عندما يشاءون، رغم أن التكفير واحد.
الدكتور أحمد الطيب كان أكثر وعيا وحكمة
في تعامله مع ملف داعش، ودعونا أقف به ومعه من آخر موقف. كان الطيب ضيفا على جامعة
القاهرة في لقاء مفتوح مع طلابها وبحضور رئيسها الدكتور جابر نصار، سأله أحد الطلاب
عن عدم إصدار الأزهر بيانا يكفر فيه داعش.
الأزهر في حقيقة الأمر لا يصدر بيانات،
فحتى لو سمى ما يصدر عنه بالبيان، فهو يصدر فتوى، أو على الأقل رأيًا شرعيًا، يكون
ملزمًا وحاكمًا، قال الطيب: إذا أردت الإجابة عن هذا السؤال فاتركنى نصف ساعة حتى أوثقها،
وأتمنى أن أوفق في التوثيق.
التقط الطيب أنفاسه، وبدأ يتحدث من جديد،
قال إنه لكى تكفر شخصا، فيجب أن يكون قد خرج من الإيمان بإنكاره الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، فما حكم شخص يؤمن بتلك الأمور، ويشرب الخمر أو يرتكب
إحدى الكبائر، هل يصبح كافرا؟
يجيب شيخ الأزهر عما طرحه هو من سؤال واضح،
يقول: هنا تختلف المذاهب، فوضعه محل مشكلة واختلاف، فقديما إذا ارتكبت الكبيرة خرجت
من الإيمان وأصبحت كافرا، وهناك مذاهب أخرى تقول إن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان،
بل هو مسلم عاصى، ولو أن مرتكب الكبيرة مات وهو مصر على كبيرته لا تستطيع أن تحكم عليه
أنه من أهل النار، فأمره مفوض لربه.
خلاصة ما ذهب إليه الدكتور الطيب في إجابته
عن سؤال طالب جامعة القاهرة، أن الأزهر لا يحكم بالكفر على شخص، طالما يؤمن بالله وباليوم
الآخر، حتى ولو ارتكب كل الفظائع، قال: "داعش لا أستطيع أن أكفرها، ولكن أحكم على أعضائها
أنهم من المفسدين في الأرض، فداعش تؤمن أن مرتكب الكبيرة كافر فيكون دمه حلالا، وأنا
إن كفرتهم أقع فيما ألوم عليهم فيه الآن"
المفارقة في الأمر أن من يطالبون بإبعاد
الدين عن السياسة، هم الذين ألحوا على الدكتور الطيب أن يقحم الدين في عمل سياسي، فداعش
ليست مجموعة دينية، بقدر ما هي عصابة مجرمة تتقنع بالدين لتحقيق أهدافها، والمفارقة
الأكبر أن من نعتقد أنه يريد أن يقحم الدين في السياسة يحاول أن يبتعد به عن الصراع
القائم على الأرض.
موقف الأزهر من داعش يمكن أن نحصره في
أربع محطات، كان الطيب فيها ثابتا على موقفه لم يتراجع.
المحطة الأولى كانت في ٨ سبتمبر ٢٠١٤ عندما
استقبل وزير الخارجية السعودى الراحل سعود الفيصل، قال وقتها إن أعضاء داعش مجرمون
فهم يصدرون صورة مشوهة للإسلام، واعتبرهم أداة في أيدى الصهيونية العالمية، وأبدى الطيب
غضبه وحزنه عندما قال: "من المؤلم أن ترتكب هذه الجرائم غير الإنسانية تحت دعاوى الخلافة
واستعادة الدولة الإسلامية وباسم الإسلام الذي هو دين رحمة".. مرت تصريحات شيخ الأزهر
هذه المرة دون أدنى ضجة، فهو يدين ما تفعله داعش ويبدى اعتراضه عليه وغضبه منه.
المحطة الثانية كانت في ١١ ديسمبر
٢٠١٤، أصدر الأزهر بيانا رفض فيه بشكل كامل تكفير تنظيم داعش، وكانت مناسبة هذا البيان
نفى ما فهمته وسائل الإعلام من كلمة مفتى نيجيريا الشيخ إبراهيم صالح الحسينى في مؤتمر
عقده الأزهر تحت عنوان "الأزهر في مواجهة التطرف والإرهاب".. فقد فهم من كلامه أنه
يكفر التنظيم المتطرف، وهو ما نفاه الأزهر وحصر الفكرة وقتها في أن الحسينى أوضح أن
أفعال هؤلاء ليست أفعال أهل الإسلام، بل هي أفعال لا تصدر من مسلمين.
المحطة الثانية كانت في ٣١ ديسمبر، عندما
التقى برؤساء تحرير الصحف، وكان وقتها يشكو من حملة هجوم شرسة، وأعتقد أن هناك من نصحه
بأن يجلس إلى رؤساء تحرير الصحف حتى يكسبهم في صفه، ويخفف حدة الهجوم والضغط عليه،
يومها قال لهم إنه يمكن قطع أيدى داعش وأرجلهم أو صلبهم، وهذه حدود الله في الخوارج،
ولكن لا يجوز تكفيرهم، وهو ما أثار ضجة هائلة حول عمامة الرجل، واتهم يومها بأنه نصير
للإرهاب والتطرف، فهو بموقفه هذا يمنح متطرفى داعش شرعية، رغم أنه قال بتطبيق حد الحرابة
عليهم.
المحطة الثالثة كانت في ٢ ديسمبر ٢٠١٥،
أي بعد عام كامل من لقاء رؤساء التحرير، صمت خلاله شيخ الأزهر تماما، لم يتحدث إلا
في لقائه بطلاب جامعة القاهرة الذي أشرت إليه منذ قليل، وكان واضحا وحاسما، يدافع عن
موقفه وفتواه دون لبس أو خضوع لحالة ابتزاز تعرض لها خلال شهور طويلة.
يمكن أن أتفهم بالطبع وجهة نظر شيخ الأزهر،
من أرضية المفتى الذي يرفض أن يزج بالإسلام في صراع سياسي، ويجعل الفتوى في خدمة العمل
السياسي، ويمكن أن تشيد بالطيب في هذه المسألة تحديدا، لكن يمكن أن تعيب عليه أنه لا
يزال متمسكا بمناهج الأزهر التي يعتبر كثيرون أنها المصدر الأساسى لأفكار داعش، وهناك
أدلة كثيرة على ذلك، لكن الطيب ينكر ذلك، ويصف كل من يقول به، بأنه يريد أن يهدم الأزهر،
ويسىء إلى الإسلام، رغم أن الأزهر ليس هو الإسلام على الإطلاق.
يمكن أن تحتج علىّ بأن الدكتور الطيب ليس هو المفتى الذي ينأى بنفسه عن السياسة، وبأن ما قلتُه من أنه رفض أن يتطوع بفتاوى سياسية ليس صحيحًا على الإطلاق، فعندما انصرف الناس عن المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، أفتى بأن من يقاطع الانتخابات البرلمانية مثل عاق والديه، وهى فتوى جرّت عليه هجوما طاغيا، ثم إنه من أفتى بأن الخروج في مظاهرات في ٢٥ يناير حرام شرعًا، وهو ما جعل كثيرين من مشايخ الأزهر يسيرون خلفه في نفس الاتجاه، وهو ما يعنى أنه يقدم فتاواه لخدمة السلطان، حتى ولو لم يطلبها السلطان نفسه، وسأقول: عندك حق تمامًا، ويمكن أن تعتبر ما حدث تناقضًا وقع فيه شيخ الأزهر، وسيكون هو مطالبًا بأن يفك هذا الاشتباك من حوله، وليس أنا.
فتاوي
دينية وسياسية لـ"الطيب"
طالما جئنا على المفتى في شخصية الدكتور
الطيب، فلابد أن نثبت هنا بعضا مما قاله، ونسب إليه، فالنظريات التي أشرنا إليها على
أنها قواعده في إصدار الفتوى، لابد أن نبحث لها عن تطبيق.
■ أولا: مصافحة الإسرائيلى مكسب له
في واحدة من المناسبات العالمية، رفض الدكتور
الطيب مصافحة شيمون بيريز، وقال وقتها مصافحته ستحقق له مكسبا، لأن المعنى أن الأزهر
صافح إسرائيل، وسيكون هذا خصما من رصيدى، وخصما من رصيد الأزهر، لأن المصافحة تعنى
القبول بتطبيع العلاقات، وهو أمر لا أقره إلا بعد أن تعيد إسرائيل للفلسطينيين حقوقهم
المشروعة.
■ ثانيا: شرعية الزى الإفرنجى
قال الطيب بعد أن تولى مسئولية مشيخة الأزهر:
سوف أطلق العنان للحيتى – كان حليق الذقن وقتها – لأنه جرى العرف على أن شيخ الأزهر
له لحية، وهو شىء مطلوب، كما هو مطلوب أيضا ارتداء الزى الأزهرى، وإن كنت أرى أنه ليس
واجبا أو فرضا، ولا حراما إذا ارتديت الزى الإفرنجى، لأن هذا سيصدم الشعور العام، والشرع
يقدر ويحترم الشعور العام، ويستاء من الخروج على الذوق العام، فالمسألة ليست حلالا
أو حراما بقدر ما هي عرف، والعرف مقدر عند الشرع والشريعة.
■ ثالثا: من حق المرأة أن تؤم النساء
في واحد من مقالاته بجريدة الأهرام كتب
الدكتور أحمد الطيب أن الإسلام يبيح للمرأة أن تؤم نساء أخريات في الصلاة، وليس جمعا
من المصلين من ضمنه رجال، وأضاف «لا يصح أن يرى الرجال جسد المرأة أمامهم، رغم أنهم
يرونها في حياتهم اليومية، يجب ألا يكون ذلك في أثناء العبادة، حيث الأساس هو التواضع
والتعبد».
■ رابعًا: الشيعة حرب وتقارب في وقت واحد
يقول الطيب إن الأزهر سيتصدى لأى محاولة
لنشر المذهب الشيعى في أي بلد إسلامى أو لنشر خلايا شيعية في أوساط الشباب السني، تمامًا
مثلما تتصدى إيران لأى محاولة لنشر المذهب السنى لديها» لكنه في الوقت نفسه سيواصل
دوره في مسألة التقريب الفكرى التي بدأها مع المذهب الشيعى منذ عهد شيخ الأزهر الأسبق
محمود شلتوت، وهو الحوار الذي أدى للتقليل من الكثير من التوترات والحساسيات.
■ خامسًا: لا علة لتحريم التماثيل الآن
فيما يخص ما دأب عليه البعض من تحريم التحف
والتماثيل والتكسب من التصوير وتدمير آثار ذات قيمة فنية باسم الإسلام، قال الطيب إنه
لا علة لتحريم التماثيل الآن لتلاشى عبادة التماثيل عند المسلمين جميعًا، وأن تحريم
التماثيل في صدر الإسلام كان معللًا بعبادة الأصنام، وكان من المحتم تحريمها من باب
سد الذرائع، متابعًا أن الإسلام استقر الآن وتلاشت عبادة التماثيل مع التوحيد ولم نسمع
أن مسلمًا عكف على عبادة تمثال.
■ سادسًا: النقاب مجرد عادة
يرى الدكتور أحمد الطيب أن النقاب عادة
من العادات كالزى العربى القديم، وأن الفريضة هي الحجاب، وكان قد شدد في يناير
٢٠١٠ عندما كان رئيسا لجامعة الأزهر على ضرورة خلع الطالبات للنقاب داخل لجان الامتحانات
وداخل الحرم الجامعي، مبررًا قراره بأن المراقبات على الطالبات من السيدات وأنه لا
داعى لارتداء النقاب.
■ سابعًا: أفكار سيد قطب ليست من الإسلام
تحدث الشيخ الطيب عن موقفه بوضوح من سيد
قطب صاحب كتاب «في ظلال القرآن» والقطب الإخوانى العتيد قائلا: مفهوم الحاكمية هو أحد
الأصول الموجودة في فقه الجماعات المسلحة، والذي يعد من أهم الأصول التي دفعتهم لمواجهة
المجتمع مواجهة مسلحة، وأن هذا هو فكر الخوارج الذين أرغموا سيدنا «على» على قبول التحكيم،
بعد اقترابهم من الهزيمة، ثم انشقوا عنه، وقالوا الحكم لله، وكفروا الصحابة وسيدنا
عليًّ وقتلوه.
وأشار إلى أن سيد قطب أُعجب بكتاب معاصره
وصديقه أبى الأعلى المودودى أشد الإعجاب لدرجة الانبهار، وانطلق منه إلى أنّ الحاكمية
لله، لأن الألوهية هي الحاكمية، وكل البشر الذين يعطون أنفسهم الحق في إصدار قوانين
أو تشريعات أو أي تنظيمات اجتماعية يخرجون من الحاكمية الإلهية إلى الحاكمية البشرية،
وأصبح عنده أن البشر محكومون بقوانين غير قوانين الله – سبحانه وتعالى – وبأنظمة لا
ترضى عنها شريعة الله، ولم يأذن بها الله، وبالتالى هذا المجتمع مجتمع مشرك وكافر ويعبد
غير الله؛ لأن العبادة هي طاعة الله في حاكميته.
ورأى الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر أن
هذه المفاهيم التي جاء بها سيد قطب ما انزل الله بها مِن سلطان، ولكن للأسف الشديد
وجدت من يقف وراءها من بعض الدعاة الذين ساروا على هذا النهج.